المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لا تغامر بثمرة فؤادك


هيفولا
08-08-2015, 07:06 AM
لا تغامر بثمرة فؤادك

محمود محمد الزاهد



الْمُدقِّق في واقع الكثيرين من أهل الخير والصلاح يَجِد أنَّهم مفرِّطون في حقِّ أبنائهم،
مغامرون بِهم في وجْه أعتَى التيَّارات الجارفة من الفِتَن المعاصرة.


ويتجلَّى هذا التفريط إذا ما بَحثْتَ عن المنهجيَّة التي يربِّي بِها الأبُ أبناءَه،
أو فتَّشت عن الأهداف والوسائل التي يتبعها لبناء شخصيَّتِهم وصياغةِ وتأصيلِ مبادئهم،
والتي تصوغ في مَجْموعها برنامَجًا متكاملاً في التربية يُلائم مراحل نُموِّهم،
ورُبَّما تفزعك المفاجأةُ حينما تَجِد أنَّه لا منهجيَّة ولا برامج
ولا تأصيل عند كثيرٍ من الآباء - إلاَّ من رحم الله - بل هي الأماني الحالِمة.



فكلُّ واحد يتمنَّى من قلبه أن يكون ولَدُه خيْرًا منه،
وأن يكون من أهل الْهُدى الفالحين، وأن يتحلَّى بالعلم، ويتزوَّد بالتقوى،
ولكن ليس كلُّ ما يتمنَّاه المرء يُدْرِكه، وكلُّ غاية لَها ثَمنُها ومقدِّماتُها،
والبذر يورث الْحَصاد.


ولْيَسمح لِي القارِئُ أن نَحْصر تناوُلَنا لِهذه القضية الكبيرة في زاويتين اثنتَيْن فقط؛
حتَّى لا يتشعَّب بنا الموضوع في زواياه المتعدِّدة، بِحَيث تُمثِّلان إضاءةً لنا؛
لِنُبصر بِهما حجْمَ المسؤولية والأمانة التي في أعناقنا،
ونُدْرِك نوع هذا الواجب الذي لا نستطيع أداءَ هذه الأمانةِ إلاَّ به.


الزَّاوية الأُولَى: مقوِّمات المربِّي ذاتِه للقيام بالعملية التربوية:
الكلُّ يدرك صعوبة التَّربية، ويلمس الأخطار المُحْدقة بالبيت الْمُسلم،
وبالنَّشء الصاعد بصورة أخصَّ، ويزداد الشُّعور باكتناف الْمخاطر
عند رؤية مَصائبِ الغير هنا وهناك؛ فهذا يشكو من انْفِراط عِقْدِ ولَدِه،
وذاك يَصِيح بأنَّ الأولاد لَم يشبُّوا على مَحبَّة الدِّين والعِلْم والفضائل كما كان يتمنَّى،
ومع إدراك هذا الْخَطر، واستيعاب شِدَّة الموقف،
كان لزامًا ولا بدَّ أن يأخذ المرء أُهْبتَه واستعداده، ويلبس لِهذا الأمْر لِباسَه؛
وإنَّما يكون ذلك بإعداد الإنسان المربِّي نفْسَه أدَبًا وخُلقًا وعلمًا،
وبناءُ بيتٍ على أساس من التَّقوى يكون المَحْضن الأوَّل لِثَمرات الفؤاد؛
بيت يُتلى فيه القرآن، وتُدرس فيه السُّنة، ويُمارَس فيه الإيمان،
حتَّى إذا ما نشأ الولَد عرف الآداب وأدلَّتَها، وسمع الحديث وأَلِفَ لُغَة أهل العلم،
وتعوَّدَ على الخيْر، وصُبِغ به.


يقول ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: "عوِّدوهم الخيْر؛ فإنَّ الخير عادة"[1].

فكثيرٌ من الآباء لا يستطيع توجيه أبنائِه بشكل علميٍّ،
اللهم إلاَّ ما اقتضتْه الفِطْرة، وعُرِف بالسَّليقة.

ويكون ذلك في الغالب لقِلَّةٍ في العلم،
فهم لَم يتدارسوا الكتاب والسُّنة بطريقةٍ يُمكن تدريسها للآخَرين.

أو لضعْفٍ في الْمُمارسة الإيمانيَّة،
فيكون سلوك الآباء ومُمارساتُهم ليست مبنيَّةً على دليل شرعيٍّ واضح،
وموقفٍ إيمانِيٍّ صريح، بل تربية عفويَّة على عاداتٍ موروثة، وسلوكيَّات منقولة،
تشتمل على الْحَسَن والقبيح، وبعضِ الإيجابيات، وكثيرٍ من السَّلبيات،
مِمَّا ينعكس أثَرُه على الأبناء، فيَضْعف التأصيل الإيمانِيُّ والقِيَميُّ في نَفْسِ الطفل،
ويسهل اهتزازه أمام التيَّارات الجامِحَة والفِتَن العاتية.


ولأنَّ "فاقِدَ الشَّيء لا يعطيه"، "وكلُّ إناء ينضح بِما فيه"؛ فإنَّ للقلب غذاءً،
لا يُمْكن أن يعيش بغيْر غِذائه، وأصل ذلك في تلقِّي الوَحْيَيْن، وفَهْم معاني الشَّريعة،
والعمل بذلك، كما كان أصحاب النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَذْكرون ويَنصُّون،
فلا يُمْكن للآباء النُّهوضُ والرقيُّ بالأبناء إيمانيًّا دون التمسُّك بِحَبْل الكتاب والسُّنة في نَفْس الأبوَيْن ابتداءً، ثُم تلقينهما للأبناء في مُختلف مراحلهم العمريَّة،
وعلى مدار نُموِّهم الإدراكي والنَّفسي.


وهذه المهمَّة تَحتاج إلى إرادةٍ وقَصْد، فمُمارسةٍ وسلوك، وأخيرًا إلى وسائلِ وأدواتٍ،
وكلٌّ بِحسَب استطاعته وطاقتِه، ومَن عنده فاقة يسعى إلى سدِّ فاقته أو الصَّبْر عليها،
غيْرَ أنَّ الفاقة في الدِّين لا صبْر للإنسان عليها، ولا غِنَى له بدون تَدارُكِها،
وموضوعنا الذي نتناوله من أهمِّ مقاصد الدِّين؛ إذْ هو يتعلَّق بالْجِدِّية في تلقِّي الدِّين وطلَبِه،
والإقبال عليه، ولزومِ ذلك واستمراريَّته،
وبالتالي التبصير به وتعبيد الناس لِخَالقهم ومولاهُم - جلَّ وعلا.
وإن كُنَّا قد ألْمَحْنا في الفقرات السابقة عن حاجة الأبوَيْن للعلم الشَّرعي
والتلَقِّي المستمرِّ لِنُصوص الوحيَيْن - الكتاب والسُّنة -
حتَّى يتسنَّى لَهُما تلقينُهما للأبناء؛
فإننا نَهْمس هنا، ونضيف إلى ما قدَّمناه ضرورة التأهُّب التَّربوي والنفسي
لاستيعاب الدَّور الذي سيقوم به المربِّي النَّاصح، وما يتطلَّبه هذا الدَّور من مهامَّ تربويَّة،
وخططٍ تنمويَّة، تتعاطى مع أنْماطِ سلوك الأبناء وقدراتِهم الإبداعية.


وسواءٌ تَمَّ التأهيل لِهذه المهامِّ عن طريق التأهيل الأكاديمي،
أو بتلقِّي الخبرات وتناقُلِ التجارب، أو بالاستقراء والاستنباط، أو غيرها من الطُّرق،
فالْمهمُّ في بداية الطَّريق أن يعرف المربِّي أهَمِّية ذلك،
ويسعى لتحصيله جدِّيًّا قدْرَ استطاعته وإمكاناته، وأن يَبْحث جاهِدًا،
ويُكْثر من السُّؤال والتحرِّي في جوانب التَّربية، وأساليب تأصيل القِيَم والمعاني الإيمانيَّة،
وطرق إخراج الشخصيَّة الْمُسلمة؛ لتحصيل هذا العلم الضَّروري
المبنِيِّ على أصولٍ علميَّة منهجية،
وليس متروكًا للتجارب والْمُغامرة، فليس لكلِّ أبٍ الحقُّ في أن ينشئ تجاربه
فيما يتعلق بأبنائه من البداية دون أن يَسْتبصر بِما انتهى إليه الآخرون،
ودونَ أن يستفيد من خبْراتِهم أو يعتَبِر بنتائجهم، فهذا لا يقوله عاقل.


ولسْنَا بصدد أن نَذْكر أثر هذه التَّربية المنهجيَّة في التكوين النَّفْسي
والبِنَاء العَقْلي الرَّصين، وكذلك في غرس معاني العقيدة وروح العِلْم،
والانتماء إلى الحقِّ، وغير ذلك مِمَّا يحتاج إلى جهد وبَحْث طويل.


ولكن نلفت نظر الآباء إلى أنَّ الاهتمام بالبِناء النَّفسي لدى الطِّفل،
وعدمَ التعامل بارتجاليَّة مع مشاعره وانفعالاته، خاصَّة في سنِي عمرِه الأولى؛
الأمر الذي سوف يؤثِّر في تكوين الشخصية، وينعكس على سلوكيَّات الطفل ونشاطاته
فيما بعد، مِمَّا يَحدو بالآباء والمربِّين إلى إدراك ضرورة التأهيل التربويِّ والنَّفسي
للقيام بالعمليَّة التربوية بشكل صحيح.


ومن الأمور الْمُعينة على هذا التأهيل والتدريب،
واكتساب الخِبْرات في هذا المَجال باختصارٍ:
• معرفةُ حجم المسؤوليَّة التي استرعاكَها الله - عزَّ وجلَّ -
وضرورة أداء الأمانة الموكلة إليك،
ومن ثَمَّ الاستعانة والضَّراعة إلى الله أن يوفِّقَك في أدائك حقوق أبنائك،
وحسن رعايتهم وتنشئتِهم.


• مُطالَعة سيرة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -
فهو الْمُربِّي الأُسْوة لِخَيْر أمَّة أُخْرِجت للناس، ومنه يُستَقى المنهج.


• الدِّراسة النظرية لِمَنهج التربية الإسلامية؛
لتوضيحِ الرؤية، ومعرفة أهداف التربية الإسلامية، ومعالم الْمَنهج التربوي،
وعدم الاغترار بالْمَناهج غير الإسلاميَّة في تفسير السُّلوك وتربية النَّشْء،
ومن الكتب الرَّائدة في هذا المَجال كتابُ:
"منهج التربية الإسلامية" للأستاذ محمد قطب.

• الاطِّلاع على الدِّراسات العمَليَّة والْخِبْرات التطبيقيَّة،
الخاصَّة بالتعرُّف على أَنْماط السُّلوك لدى الطِّفل في كلِّ مرحلة،
ومِن ثَمَّ تدعيم السُّلوك الإيجابي، واحتواء السُّلوك السلبِي.


• التدريب على مُمارسة المهارات العمَليَّة
في مثلِ: إجراء حوارٍ ناجح مع طفْلِك، وتَجاهُل بعض أخطائه؛
تَمهيدًا لإثنائه عنها، وتَخليص الطِّفل من بعض العادات السيِّئة... إلخ.


• المرونة في التطبيق
بمعنى أن التعامل مع الأطفال يختلف بحسب اختلاف شخصية الطفل وميوله،
وبالتالي فإن الأسلوب الذي يؤدي إلى استجابة الطفل وإثارته
هو أنجح الأساليب في الوصول إلى هدف تربوي.


ونضرب على ذلك مثالاً: لعلاج سلوك الخوف مثلاً عند الطفل
يُمكن ذلك من خلال تعريض الطِّفل لأُمور مفاجِئَة غير مستعدٍّ لَها،
ولكنَّه قادر على تَحمُّلها، وفي حالة تَحمُّلها يُكْسِبه ذلك الثِّقةَ بنفسه،
وأنه قادِرٌ على مُواجهة الْمَخاوف، ونكون بذلك ساعَدْناه على التخلُّص من هذا الشُّعور السلبِي،
ولكنَّ هذه الطريقة قد تؤدِّي في نفْسِ الوقت إلى تعزيز شعوره بالْخَوف؛
خاصَّة إذا لَم يستطع استيعابَ هذا الموقف المفاجئ.


إذًا فعلى المربِّي أن يتَّسِم بالمرونة في تطبيق النَّماذج والْمَهارات العمَليَّة،
وانتقائها بِحَسب ما يَصْلح للشخصيَّة الْمُواجِهة.


الزاوية الثانية: ماذا نعلِّم أبناءنا؟!
يتساءل كثيرٌ من أهل الصَّلاح: ولَدِي قد بلغ عمرُه كذا من السنين،
ماذا يُمْكن أن أعلِّمه إيَّاه في هذه المرحلة؟

وهذا سؤالٌ يدلُّ على جدِّيَّة صاحبه، وحرصه على أبنائه،
وهو خيْرٌ من كثيرٍ من الذين لا يتساءلون ولا يتلَمَّسون السبيل،
ولكن يُشِير في نفس الوقت إلى عدم وضوح مَنْهجٍ تطبيقي في التَّربية والتعليم،
ومن ثَم يقع الكثيرُ في الحيرة والاضطراب،
ويتفلَّت عمر الولد من بين أيديهم دون أن يُحقِّقوا هدفهم، أو يَصِلوا إلى مقصودهم،
والمقصود هو أن يتَّضِح لدى الآباء والمربِّين منهجٌ واضح،
وبرنامَجٌ عمَليٌّ للتربية بِحَسب مراحل النُّمو الْمُختلفة، مِمَّا يجعل الأمر أكثر وضوحًا،
والأهداف أكثر قابليَّةً للتحقيق، ولا يقتصر الأمر على معلومةٍ من هنا أو من هناك.


ولِمَعرفة الفَرْق بَيْن التَّوجيه التربويِّ وفْقَ منهجٍ تطبيقيٍّ واضح،
وبين التربية العفَويَّة التي تعتمد على خبرات متناثرة،
ومعلومات مكتسَبة من مصادِرَ شتَّى؛ نضرب مثالاً بِمَوضوع التربية بالقِصَّة،
فالتربية القَصَصيَّة مِحْور مهم من مَحاور منهج التربية الإسلاميَّة؛
حيث نجد في القرآنِ الكثيرَ من القصص الذي له دورٌ كبير في تَجْلية الحقائق،
وتثبيت الإيمان، واستخلاص العِبْرة والموعظة،
وعند مُمارسة هذا اللَّون من التوجيه بشكل عمَلي في واقع التربية
تَجِد أنَّ الْمُمارسات تختلف بحسب إدراك الْمربِّين أو الآباء لفكرة المنهجيَّة في التربية.


فمثلاً: أحيانًا تجد الأمهات لا يجيدون إلقاء القصص على الأولاد،
ولا يُجِيدون هذا اللَّون من التوجيه، بل يكتفون فقط بالتوجيه الْمُباشر:
"صواب، أو خطَأ، عيب، لا يجوز"،
وأُخْريات يُجِيدون القصص، ولكن بلا توجيه "حكايات مُسلِّية".

وهنا نلْمَس واقِعَنا بعينِه،
فإنَّ توظيف القِصَّة، وبلوغَ مغزاها إلى الولَد بالشَّكل الْمُلائم والْمُناسب لواقعه،
ولِنُموِّه العقليِّ هو الْمنهجيَّة، وغير ذلك عشوائيَّة، قد تُوصِّل إلى المقصود أوْ لا.


فإلى متى نتعامل بتلك العشوائية ونعتبرها أسلوبًا بنَّاءً،
وإلى متَى نَجْعل مصادرنا في التربية هي تلك الاجتِهاداتِ الفرديَّةَ
القاصرة في قضايا خطيرةٍ ومصيرية،
مثل تربية الأبناء وتنشئتهم، دون أن نلتفت إلى مدى أهْلِيَّتِنا للاجتهاد،
والحصيلة التي نبْنِي عليها آراءنا وقراراتنا التربويَّة،
مع أنَّه من المعلوم أنَّ الاجتهاد لا يكون إلاَّ مع الأهلية،
فلا اجتهاد لِمَن لا أهليَّة له؟!


والْمتأمِّل في الواقع العمَليِّ لكثيرٍ من بيوت أهل الصَّلاح يجد اجتهاداتٍ عجيبةً في مَجال التربية،
وأحيانًا تجد تُرَّهاتٍ عقلية واهية، وحساباتٍ ساذجةً، تنعكس على النَّشء،
وتُخْرِج جيلاً من أضعف ما يكون، إلاَّ أن يتداركَنا الله برحمته.


ونَخْلص من ذلك إلى أنَّنا يجب ألاَّ نُغامر بأبنائنا، وألاَّ نُجرِّب فيهم؛
فالأَمْر لا يَحْتمل الْمُخاطرة، والتَّهاون في تعليمهم وتوجيههم نفسيًّا وسلوكيًّا،
وعِلْميًّا وشرعيًّا لَهُو جريمة في حقِّهم، وترك ذلك كلِّه - لاحتمالاتِ خروجهم صالِحين؛
لأنَّهم من بيوت أهل الصلاح - جريمةٌ أخرى؛ إذْ هي مقامرة غيْر معلومة العواقب،
وغير مضمونة النتائج، بل وغير قابلةٍ للاستدراك.


أدرِكْ ولدك قبل فوات الأوان:
الاهتمام بالتنشئة الأولى تَقِي الآباء معاناةَ جُنوح الأبناء في مراحلهم المتأخِّرة؛
حيث إنَّ الفِتَن تزداد مع زيادة العمر، وتكثر النَّوازع والجواذب،
ولكنَّ الابن يَحْفظ ما تعلَّمه في الصِّغَر من الأدَب،
وما غُرِس في قلبه من خشية الله، ولزوم طاعته.


والرِّعاية والتَّعاهُد الإيمانِيُّ والنَّفسيُّ في المراحل الأولى، وحتَّى ما قبل الْمُراهقة،
يَجب أن يصاحِبَهما هدَفٌ منهجي، ألا وهو توجيه مَحابِّ الولد،
والتأثير في اهتماماته، ومن ثَمَّ تكوين اتِّجاهات أصيلة في شخصيَّتِه،
بحيث إذا ما وصَل إلى مرحلة المراهقة وما قبْلَها بقليل، وأراد أن يستقِلَّ برأيه،
وأن ينفرد باتِّخاذ بعض قراراته،
فإنَّ استقلاليَّتَه هذه تكون منحصِرة في الاتِّجاه المَحْفور داخِلَه،

وسنضرب على ذلك مثالاً:
• أبٌ عوَّد ابنه منذ الصِّغَر على مَحبَّة أهل الدِّين، وتوقير العلم والعُلَماء،
فلما شبَّ الولَدُ أراد أن يستقلَّ عن والده في بعض الآراء،
فأصبح يُفضِّل التلقِّي عن بعض أهل العلم غيْر الذي اختارَه له أبوه.


ونُلاحظ هنا أنَّ الولد يُمارس اختياراته داخل الاتِّجاه الذي قد تَمَّ تحديده
من قبل، وليس مُحتاجًا إلاَّ تعريفه من جديد بِقَدْر العلم،
بل هو يعرف ذلك، ويتحرَّك داخل هذا الإطار.


مثالٌ آخَر:
نشأَت الأسرة على محبَّة القراءة، واقتناءِ الكتب المفيدة،
والشَّغَف بتحصيل المعارف والمعلومات،
وكان الوالِدَان يقومان باختيار هذه الكتب بعناية وَفْق معايير مُعْلَنةٍ للأبناء،
مثل: "كتب نافعة - منظَّمة - درجة احتياجنا لَها... وهكذا"،

وعندما شبَّ أحد أبناء الأُسْرة أصبح يُحقِّق ذاتَه بالانفراد باختيار بعض ما يَحتاجه
من كتبٍ وموادَّ معرفيَّة،
ولاحَظ الوالدان أنَّه عند اختياره كان يقيِّم ما يقتنيه
بطريقةٍ مُشابِهة إلى حدٍّ كبير، بالمعايير التي نشأَتْ عليها الأسرة.


فالْمُلاحظ هنا: أنَّ الولد صار عنده اتِّجاه قويٌّ نَحو حبِّ القراءة والمعرفة،
وهذا الاتِّجاه ليس مُطْلقًا، بل مقيَّدًا ببعض التفضيلات التي نشأ وترعرع عليها.


فالْمُهم أن يَحْرص الآباءُ على تكوين الاتِّجاهات الجامعة لِخِصال الخيْر،
وغَرْس القِيَم منذ بداية النَّشأة في الْمَراحل العمريَّة الْمُبكِّرة
وحتَّى ما قبل مرحلة الْمُراهقة التي لَها ما يُلائمها في المنهج التربويِّ العمَلي.


حول مراحل النمو:
يَمُرُّ الأطفال بِمَراحل نُمُو مُختلفة، تتنامى فيها إدراكاتُهم ومعارِفُهم،
وفي كلِّ مرحلةٍ يُمكن غرس مَجْموعات من القِيَم داخل تكوين الطِّفل
والتدرُّج في تلقينه هذه المبادِئَ كمًّا وكيفًا، لكن مع معرفة هذه الْمَراحل
إلا أنَّها متداخلة، كما أنَّ هناك فروقًا واختلافاتٍ بين طفل وآخَر:
في درجة الاستيعاب، ومدى استعداده لتلقِّي الْمعارف ونوع المعلومة الْمَطروحة،
كلُّ هذه الفروق تجعل من الصعوبة بِمَكان تحديدَ سنٍّ معيَّن
لِغَرس قيمة معيَّنة بِهَذا الشكل الْجَدولي التفصيلي.

لكن الْمُمكن هو أن نحدِّد الْمَطلوب في مرحلة عمريَّة كاملة،
ونقوم بالتوجيه والتَّلقين وفْقَ مدْرَكات الطفل،
وكلَّما ازدادت مدركاته ازدادَت الْجرعة التي نقوم بتعاهده بِها،
ونوع التوجيه الذي يلائمه، ويناسب مدركاته،
مع العلم بأنَّ تقدير وقياسَ مدى التنامي في مدركات الطِّفل يَحْتاج إلى ملاحظةٍ،
وتَحليل لسلوكه، وردودِ أفعاله، وأيضًا يَحتاج إلى خبْرة ومهارة من المربِّي؛
لتطوير الْخِطاب التربويِّ، والترَقِّي بِمُستويات التربية.

ولتوضيح هذه الفكرة؛ نَنْظر مثَلاً على مستوى الإدراك الْمعرفِيِّ
إلى موضوعٍ مثل "الغيبيَّات"؛ حيث يَحْسن أن نلتفت إلى أمرٍ مهم:
وهو أنَّ الطفل في مراحله الأولى لا ينبغي خِطابُه بكثيرٍ من الغيبيَّات،
مثل: "الْجنَّة - النَّار - الجن - الملائكة - الشياطين"؛
حيث إنَّ هذا من شأنه نُموُّ صورة تَخيُّلية في نفْس الولد، غالِبًا ما تكون ساذجة أو سطحيَّة؛
لأنَّه يقتبسها من الْمَعارف المُحيطة به بِحَسب مدركاته العقليَّة،
هذه الصُّورة يَحْتاج تغييرها فيما بعد إلى مَجهودٍ كبير
لِتُوافق التصوُّر الإسلاميَّ العقَدِيَّ الصحيح.


فمثلاً: معظم الأطفال يتخيَّل الشيطان في صورةٍ مُخوِّفة،
وأنَّه قبيح الْمَنظر، مُرْعِب لِمَن يراه، له قرنان وعينان حَمْراوتان،
وينشأ في نفسه الشُّعور بالْخَوف من الشَّيطان
وهو تصوُّرٌ غيْر سليمٍ بالْمفهوم العقدي، بل المطلوب تنمية الشُّعور بعداوته وبُغْضِه؛
لِمَعصيته لله، والحذر من مكايده.

أمَّا الْخِطاب عن الله وغَرْس مَحبَّتِه وخشيته في فلذات الأكباد،
فالأمر مُختلف؛ فمعرفة الله أمْرٌ مركوز في الفطرة
مِمَّا يعين على الحديث عن الله في مراحِلَ مبكِّرة من العمر.

فيقوم المربِّي باستخدام المواقف الحياتيَّة التي يتعرَّض لَها الطِّفل في تعزيز مَحبَّتِه لله،
ويُراعى أن نستخدم مدركات الطِّفل في هذا الحديث،
فمثلاً عندما يتعرَّف الطِّفل على المرض نَرْبط طلب الشِّفاء ونَنْسبه إلى الله،
فيُدْرِك ذلك ويعرفه بأنَّه يَشْفِي الْمَرضى.

وهكذا يعرف الطفل ربَّه بأنه هو الْمُنعِم بكلِّ ما حوله من النِّعم،
وهو الواهب، صاحب الإحسان، كثير العطايا،
وأنَّه يكشف الكُروب وتدرك رحمتُه العبدَ في المِحَن،
فيزيلها ويكفيه شرَّها، فينمو حبُّ الله في قلبه،
"فالنُّفوس مَجْبولة على محبَّة من أحسن إليها"، ويتعلَّق قلبه بالله في قصده وسؤاله.

أيضًا يعرف الطفل ربَّه بأشياء مستمَدَّةٍ من سلوك الآخرين مع الله؛
فعندما يُلاحِظ إجلالَ المربِّي لله ولكلماتِه، وتعظيمَه لكتابِه ولشعائرِه، وتوقيرَه لذِكْرِه،
كلُّ هذا تنتقِلُ آثارُه للولد في صورة تَقْديسٍ وتعظيم لِحُرمات الله،
وخشيةٍ من المساس بأمر يورث سخط الله وغضبَه.

وهكذا يتمُّ بناء التصوُّر الإيمانِيِّ، ويزداد كلَّ يوم بتطوُّر الْخِطاب؛
حتَّى يصير مؤهَّلاً للخِطاب القرآنِيِّ الْمُباشر؛
وفي حينها سيكون لدَيْه رصيدٌ كافٍ لتلقِّي القرآن والعمل به "نور على نور".

فالْمَطلوب أن يكون لدينا دليلٌ عمَليٌّ، ومنهج مفصَّلٌ لتربية أبنائنا
على مستوى الْمَراحل العمريَّة، ومن ثَمَّ نستطيع كلَّ يوم أن نعرف أين نحن من هذا المنهج،
ونقيس مدى نَجاحِنا وإخفاقِنا في تحقيقه.


تحديد الأهداف والغايات:
كثير من الآباء - الجادِّين - منتهى أمَلِه أن يتمَّ ولَدُه حفْظَ القرآن الكريم كاملاً،
وهو هدف جميل، وغاية سامية، لكنَّها ليست هي منتهى الغايات،
فحِفْظ كتاب الله أوَّل الطريق لفهمه والفِقْه فيه، وبداية لِمَعرفة السُّنة، ومِن ثَمَّ العمل بِهما.

فكَما نَهْتمُّ بالقرآن حفظًا، لا بد أن نَهتمَّ بتعلُّم أحكامه كما كان أصحابُ النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفعلون، ولا بد كذلك ألاَّ يشغلنا ذلك عن دراسة السُّنة؛ لأنَّها - مع القرآن -
طريق واحد للنَّجاة، وحبلٌ للاعتصام من الزَّيغ والضَّلال،
وعليهما مدار الدِّين، وبِهما يتلقَّى المسلم أمور دينه.

حتَّى إنَّ معرفة الاعتقاد الصَّحيح، واتِّباع صراط الله المستقيم -
وهو أوجَبُ الواجبات وأولاها وأوَّلُها - لا يكون إلاَّ من خلال الكتاب والسُّنة معًا.

الهروب أو توزيع الأدوار:
بعض الآباء - الْحريصين - يوكل مسؤوليَّتَه كاملةً إلى غيْره،
فيقوم بتوزيع أدواره على المُحيطين به، فينال الأُمَّ قسطٌ كبيرٌ من مهامِّه،
ويستخلف معلِّمًا لِيَقوم بقسط ثانٍ،
أو يرسله إلى أحد الأقارب؛ لِيَسدَّ القسط الباقي.

وبذلك يظنُّ أنَّه قد أفرغ يده من أبنائه، وأدَّى ما عليه تُجاههم دون تقصيرٍ أو إهْمال.

ولكن الأمر ليس كذلك؛ فمن الذي يَضْمن لك قيامَ هؤلاء بواجبهم؟
ومَن الذي أدراك بكفايتهم في أداء دَوْرِك؟ وكيف تبلغ بك المُجازفة إلى هذا الحدِّ؟
فعلى كلِّ حرْصِك عليهم فأنت مُغامِر بِهم؛
لأنَّ دورك الحقيقيَّ معهم لا يعوضه غيْرُك،
وتأَسِّيهم بك مقرونٌ بأبُوَّتِك لَهم،
فكلُّ ما فعَلْتَه خيْرٌ بك، وليس بدونك،
فدَعْ هؤلاء - إن كانوا أهلاً لذلك - يشاركونك ويعينونك،
لا أن تشركهم أنت في فلذات كَبِدك.

فانتبه - رعاك الله - لنفسك ولثمرات فؤادك،
ولَقِّنهم الكتاب والسُّنة حروفًا ومعانِيَ، وحفظًا وفهمًا وتطبيقًا.

وأخيرًا لا أدَّعي في هذه الإضاءات أنِّي أصوغ منهجًا عمَليًّا للتربية
، ولكنِّي قصدْتُ أن ألفت النَّظر إلى أهَمِّية المنهج التطبيقيِّ الْمُنضبط، وضرورة التأهيل التَّربوي،
ومهما كان هذا الأمر مُجْهدًا ومكلِّفًا، ويَحْتاج إلى بَحثٍ وتَحرٍّ مُضْنٍ،
فالْمَسؤولية أكبَرُ من هذه الكلفة، وهذا الجهدِ المبذول.

فعن عبْدالله بْن عمر - رضي الله عنهما - قال:
سَمعْتُ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول:
((كلكمْ راعٍ، وكلُّكمْ مسْؤولٌ عنْ رعيته؛ الإمام راعٍ ومسْؤولٌ عنْ رعيته،
والرجل راعٍ في أهْله وهو مسْؤولٌ عنْ رعيته، والْمرْأة راعيةٌ في بيْت زوْجها ومسْؤولةٌ عنْ رعيتها،
والْخادم راعٍ في مال سيِّده، ومسْؤولٌ عنْ رعيته))
، قال: وحسبْتُ أنْ قدْ قال:
((والرجل راعٍ في مال أبيه ومسْؤولٌ عنْ رعيته، وكلُّكمْ راعٍ ومسْؤولٌ عنْ رعيته))؛
أخرجه البخاري.




[1] عن عبدالله قال: "حافظوا على أولادكم في الصَّلاة، وعلِّموهم الخير فإنَّما الخير عادة"؛
أخرجه الطبرانِيُّ في "المعجم الكبير"، والبيهقيُّ في "السُّنن"،
وأخرج ابن ماجهْ وابن حبَّان عن معاوية أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال :
"الخير عادة، والشرُّ لَجاجة، مَن يُرِد الله به خيْرًا يفقِّهْهُ في الدِّين"؛
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.