المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبتى الجمعة من المسجد النبوى بعنوان : أثر العلم في النفوس


حور العين
08-30-2015, 08:45 PM
خُطَبّ الحرمين الشريفين
خُطَبّتي الجمعة من المسجد النبوى
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور عبد البارئ بن عواض الثبيتي - يحفظه الله
خطبتى الجمعة من المسجد النبوى بالمدينة المنورة بعنوان :
أثر العلم في النفوس

تحدَّث فيها عن العلم وآثاره في نفوس المُسلمين،
مُبيِّنًا فضلَه وأهميتَه في حياة الأفراد والأُمم،
وأن رُقيِّ أمة الإسلام ونجاحها في الدارَين إنما هو بالعلم والعمل به،
كما ذكَّر بأن العلمَ ليس بحمل الشهادات ولا التباهي بها؛
وإنما للعلم آثارٌ مذكورٌ بعضُها في ثنايا الخطبة .
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي رفع قدرَ العلم والعلماء،
أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه في السراء والضراء،
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائلُ:

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }
[ فاطر: 28 ]
وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه القائلُ:
( ومن سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة )
صلَّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه الأوفياء.

فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى:

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
[ البقرة: 282 ].
العلمُ نورٌ يُضيءُ الطريق، ويهدي السالِكين، وهو ركيزةُ التقدُّم والتطوُّر والتنمية،
وسبيلُ النهوض بالعالَم الإسلامي لبناءِ حضارةٍ مُشرقة، واقتصادٍ متينٍ، وإنسانٍ مُتَّزن.
فضلُ العلم وأهميتُه مبسوطٌ في كتب أهل العلم،
ولعلَّنا نُسلِّط الضوءَ في حديثنا على أمرٍ قد نغفُلُ عنه،
عن القيمةِ الحقيقية للعلم؛ أثره وثمرته.

فهذه الجهودُ التي تُبذلُ، والأموالُ التي تُنفق، والمباني التي تُشيَّد، والعملُ الدَّؤوب ..
كلها تتعاضَدُ لتحقيق الأثر المنشُود والهدف الأسمَى.
وإذا أردنا معرفةَ فعالية المناهِج وطرائِق التعليم،
فعلينا قياسُ أثر العلم في النفس والحياة والتنمية، وهذا يُجلِّي لنا الحقائِق،
ويُبيِّن مواطِن القوةِ والضعف.
وتقدُّم الأمم لا يُقاسُ بكم المعلومات التي تُحشَى بها الرؤوس،
ولا بقدر المحفُوظات التي تلوكُها الأفواه،
وإنما تُقاسُ بأثر هذا العلم في السيرة والسريرة والحياة والتنمية.

وتشتدُّ حاجة أمَّتنا اليوم إلى تنمية أثر العلم في جميع المجالات والميادين،
والذي أضعفَ تأثيرَ العلم،
وأفقدَه شيئًا من قيمته أن جعلَه بعضُ المُنتسِبين إليه ثوبًا يتجمَّلون به،
وحليةً يُفاخِرون بشهاداتها، وسُلَّمًا لبلوغ الجاه وتحصيل المال،
وإشباعًا لشهوةٍ خفيّةٍ من حبِّ الظهور، والتفوُّق على الأقران، أو طلبًا لمحمَدة الناس.

فعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال:
قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( لا تعلَّموا العلمَ لتُباهُوا به العلماء، ولا لتُمارُوا به السفهاء،
ولا تخيَّروا به المجالِس؛ فمن فعلَ ذك فالنارُ النار )
وقال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -:
[ كان الرجلُ إذا طلبَ العلمَ لم يلبَث أن يُرى ذلك في تخشُّعه وبصرِه
ولسانِه ويدِه وصلاتِه وحديثِه وزُهده ]
فبالعمل يتحقَّقُ أثرُ العلم.
قال عطاء:
[ كان فتًى يختلفُ إلى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، فيسألُها وتُحدِّثُه،
فجاءَها ذات يومٍ يسألُها فقالت: يا بُنيَّ ! هل عملتَ بعدُ بما سمعتَ مني؟
قال: لا واللهّ يا أماه،
فقالت: يا بُنيَّ ! فبذم تستكثِرُ من حُجَج الله علينا وعليك؟!
إذا أخذتَ نصيبًا وعملتَ به فتعالَ خُذ غيرَه ]

أولُ ما يُرفعُ من العلم أثرُه وبركتُه؛
فقد جاء في حديث عوف بن مالك الأشجَعيِّ - رضي الله عنه
أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نظرَ إلى السماء فقال:

( هذا أوانُ رفع العلم
فقال رجلٌ من الأنصار - يُقال له: لبيدُ بن زياد -:
يا رسولَ الله ! يُرفعُ العلمُ وقد أُثبِت ووعَته القلوب؟!
فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتُ لأحسبُك أفقهَ أهل المدينة
ثم ذكرَ ضلالَة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله.
قال: فلقيتُ شدَّاد بن أوسٍ وحدَّثتُه بحديث عوف بن مالك،
فقال: صدقَ عوف،
ثم قال: ألا أخبرِكَ بأول ذلك يُرفع؟
قلتُ: بلى
قال: الخشوعُ، حتى لا ترى خاشِعًا )

وذهابُ الخشوع الذي هو أثرٌ من آثار العلم، حتى يكون في الناس من يقول:
لا إله إلا الله، ولا يفقَهُ معناها فضلاً عن العمل بمُقتضاها.
يتفاوَتُ تحقُّق أثر العلم في النفوس، ويختلفُ باختلافها؛
فعن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

( مثلُ ما بعثَني الله به من الهُدى والعلم كمثَل الغيث الكثير أصابَ أرضًا،
فكان منها نقيَّةٌ قبِلَت الماء، فأنبَتَت الكلأ والعُشبَ الكثير،
وكانت منها أجادِبُ أمسكَت الماء، فنفعَ الله بها الناس فشرِبوا وسقَوا وزرعُوا،
وأصابَت منها طائفةً أخرى إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأً،
فذلك مثلُ من فقهَ في دين الله ونفعَه ما بعثَني الله به فعلِمَ وعلَّم،
ومثلُ من لم يرفَع بذلك رأسًا ولم يقبَل هُدى الله الذي أُرسِلتُ به )

الإيمانُ هو الضابطُ للعلم، والمُوجِّهُ للمسالِك، حتى يُحقِّق أثرَه النافع،
وإذا لم يقترِن العلمُ بالإيمان غدَا خيرُه شرًّا، ونفعُه ضُرًّا،
وأثرُه وبالاً على الفرد والأمة. فالذين يستكبِرون في الأرض، ويجحَدون نعمَ الله،
ويُنكِرون خالقَهم، وينتهي بهم الحالُ إلى الكفر والإلحاد لم يُزكِّ الإيمانُ علمَهم وقلوبَهم.

قال الله تعالى:

{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }
[ غافر: 83 ]
والقرآنُ يحكي عن قارون قولَه:

{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي }
[ القصص: 78 ].

يُؤتِي العلمُ أُكلَه، ويزهُو أثرُه حين يُربَطُ بأصالة الكتاب والسنة في الثقافة
والفِكر والأدب، ولا يُمكِنُ للأمة أن تُثبِت وجودَها،
وتكون لها الرِّيادةُ وموقِعُ الصدارة إذا فقدَت وأهملَت أصالتَها،
أو تناسَت لُغتَها وتاريخَها.

للقرآن أثرٌ لا ينتهي مدَدُه، ولا ينضَبُ فيضُه .. حِكَمٌ وأحكامٌ، نماءٌ وتنمية،
ينقلُ الفردَ والأمةَ إلى الدرجات العُلى في الدنيا والأخرى.
ما اقتربَ منه عبدٌ إلا سمَا وارتقَى، وما هجرَه إنسانٌ إلا شقِيَ وهوَى،
يبنِي الشخصيةَ السوِيَّة، ويرفعُ ذكرَ الأمة، ويدلُّها على منهج الحضارة والسيادَة.
والأمةُ المُدرِكةُ لأهمية قُرآنها وعظيم أثره، تجعلُ له النصيبَ الأوفرَ في مناهِجها،
وتنكبُّ عليه قراءةً وتدبُّرًا وفهمًا.

والعلمُ له أثرٌ على الأخلاق التي هي مِقياسُ رِفعة الأمة،
فالعلمُ وحده بلا تربيةٍ لا يصنعُ جيلاً ناجِحًا؛ فإذا هذَّبَ العلمُ الخُلُق، وقوَّم السُّلوك،
ونقَّى السَريرة، وطهَّر السيرة، فهذا هو العلمُ المأمول، والأثرُ المنشُود.

قال سُفيانُ بن عُيينة - رحمه الله -:
[ إذا كان نهاري نهارَ سفيه، وليلي ليلَ جاهلٍ، فما أصنعُ بالعلم الذي كتبتُ؟! ]

ما قيمةُ العلم إذا كان الحسدُ مُتربِّعًا في النفوس، والضغينةُ تملأُ القلوب،
والمجالِسُ تُحلَّى بالغِيبة والنميمة وانتِقاص الناس واحتِقارهم؟!
ما قيمةُ العلم إذا كان صاحبُه يُبارِزُ بمُحادَّة شرعه، ويخونُ دينَه ووطنَه وأمَّتَه،
ويكذِبُ في أعماله ومُعاملاته، ويهتِكُ جلالَ العلم بسُوء سُلوكه،
ويُطفِئَ إشراقَه بسيِّئ أفعاله؟!
ويظهرُ أثرُ العلم في البحث الذي يُحقِّقُ فائدةً ويُنتِجُ ثمرةً،
ولا يكونُ مبلغُ الباحِث شهادةً تُقتنَى، وصفحاتٍ تُسوَّد.

البحثُ المُثمِر هو الذي يُقدِّمُ اختراعًا يخدِم البشرية، واكتِشافًا يُسهِّلُ حياتَها،
وهو البحثُ الذي يتناولُ نوازِل الأمة، ويعرِضُ حُكم الشرع فيها، والحُلولَ لها،
وهو البحثُ الذي يُشخِصُ واقعَ الأمة والمخاطِر المُحدِقة بها، ويرسِمُ مُستقبلَها،
ويُحدِّدُ معالِمَ العزِّ والتمكين.

العلمُ يظهرُ أثرُه في ترسيخِ النزاهة، وسدِّ مسارِب الفساد والإفساد،
ويظهرُ أثرُ العلم في تنمية العقل، وسلامة التفكير، وجودة المنطِق، وقوَّة الحُجَّة.
ولتحقيق لك ربَّى القرآنُ الكريمُ أهلَه على التأمُل في آيات الله،
وتدبُر عجائِب قُدرته في آفاق الكون والحياة
قال الله تعالى:

{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }
[ فصلت: 53 ]
وخُتِمَت الآياتُ بقوله:

{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
[ البقرة: 44 ]

{ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ }
[ الأنعام: 50 ]

{ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }
[ الأنعام: 80 ]

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ }
[ الزمر: 21 ].

كل ذلك لإعمال الرأي، وتنمية العقل، والتربية على طرائِق التفكير المُنظَّم.
قال الله تعالى:

{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }