المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان : لا تشمت بأخيك


حور العين
11-08-2015, 07:02 PM
خُطَبّ الحرمين الشريفين
خُطَبّتى الجمعة من المسجد الحرام
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد - يحفظه الله
خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان :
لا تشمت بأخيك
والتي تحدَّث فيها عن خُلُق ذميم، وهو الشماتة بالمسلمين،

مُحذِّرًا من هذا السلوك المشين، وقد أوردَ من الأحاديث والآثار

وكلام أهل العلم ما يردَع عن هذا الخُلُق، كما بيَّن أنه قرين الحسد.

الحمدُ لله، الحمدُ لله مُصرِّف الدهور، ومُيسِّر الأمور، ومُقلِّب الأيام والشهور،

لا إله إلا هو له الحمدُ في الأولى والآخرة وإليه النشور، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه،

وأتوبُ إليه وأستغفرُه، أعطَى وأجزَل، وأنعمَ وتفضَّل، ووقَى من الشُّرور،

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً صادقةً

هي الشفاءُ لما في الصدور، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه

قام بحقِّ ربِّه حتى تفطَّرَت قدَماه فهو العبدُ الشَّكور،

صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِه آمَنوا بربِّهم،

واتَّبَعوا رسولَه وما أُنزِل معه من النور، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ،

وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقبَ العشيُّ والبُكور .

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛

فقوارِعُ الأيام داهِية .. فهل من أُذُنٍ لعِظاتها واعِية؟!

ونوازِلُ الحُمام فاجِعة .. فهل القلوبُ لوقعَتها مُراعِية ؟!

ومقادِيرُ الآجال جارية .. فهل النفوسُ في الاستِعداد ساعِية ؟!

أين الآباءُ الأكابِر .. وأين الأبناءُ الأصاغِر .. وأين الصديقُ المُعاشِر ..

وأين الغريبُ وأين القريب .. وأين الغائِب وأين الحاضِر ..

لقد عثَرَت بالجميع العواثِر .. ودارَت على أصحابها الدوائِر

{ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ

قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }

[ يونس: 102 ].
أيها المسلمون :
جاء الإسلامُ ليُطهِّر البشريةَ من أدران الجاهلية وأمراضها،

ويُقوِّم السلوكَ ليستقيمَ على الفِطرة السويَّة. والرابطةُ بين أهل الإسلام هي رابطةُ الدين،

وأُخُوَّة الإيمان، ولهذه الرابِطة معالِمها، من حُسن المُعتقَد، والمحبَّة، والسرور،

وحب الخير للناس والفرح به، واجتِناب ما يُكدِّرُ على ذلك ويُشوِّشُ عليه،

من الحسد والشحناء، والتهاجُر، والتباغُض، والسِّباب، والتنابُز بالألقاب .

والناصِحون من عباد الله، المُحبُّون لخلق الله أهلُ أدبٍ ورحمة، وحبٍّ ومودَّة،

وصدقٍ ووفاء .
معاشر الإخوة:
وقد استوعبَت الشريعةُ في شُمولها وعلاجِها كلَّ أمراض النفوس ومعايِبها،

أقوالاً وأفعالاً، ومشاعِر وانفِعالات.

وإن في مُستجدَّات العصر وتقنيَّاته ما وسَّع ذلك كلَّه ووسِعَه ابتلاءً وعلاجًا .

معاشر المسلمين :

وثمَّة خُلُقٌ ذميم، وسُلوك شائِن، يدلُّ على نفسٍ غير سويَّة،

وقلبٍ مدخُول يكادُ يخلُو من الحبِّ والمودَّة والعطف وحبِّ الخير،

ذلكم - عباد الله - هو: خُلُق الشماتة، وغالبًا ما يقترِنُ به مظاهرُ كراهية، من السخرية،

والهمز، والغَمز، واللَّمز، وألوان الاستهزاء قولاً وفعلاً وإشارةً - عياذًا بالله -.

الشماتةُ - حفِظَكم الله ووقاكم - وصفٌ ولقبٌ ولفظٌ فيه تنقُّص، أو حطُّ مكانة،

أو احتِقار، أو ذمٌّ أو طعنٌ، أو تعدٍّ على كرامة.

الشماتةُ فرحٌ ببليَّة من تُعاديه، والسُّرورُ بما يكرَهُ من تُجافِيه.

يقول ابن بطَّال:

[ شماتةُ الأعداء ما ينكَأُ القلب، وتبلغُ به النفسُ أشدَّ مبلَغ،

وهي لا تحصلُ إلا من عداوةٍ أو حسد ]

بل قال أهلُ الحكمة:

[ إن الحسَد والشماتةَ مُتلازِمان، فالحاسِدُ إذا رأى نعمةً بُهِت، وإذا رأى عثرةً شمِت ]

أيها الشامِت! أيها المُبتلَى بالشماتة! عافاك الله من هذا الداء وهداك، كأنَّك تزهُو بكمالك،

وتُفاخِرُ بجمالِك، وتغفلُ عن مُوادَعةِ الأيام لك،

وتظنُّ أن أخاك هذا المُبتلَى لم يُبتلَى بما ابتُلّيَ به إلا على كرامةٍ في نفسك،

أو بسبب إجابةّ دعوةٍ منك أو من غيرك. فهذه تزكية، وهذا عُجبٌ وغُرور وغفلة،

بل قد يكون استِدراجًا ومكرًا - عياذًا بالله -.

أما علِمتَ أن الشماتةَ قد تكون انعِكاسًا لأمراضٍ نفسيَّة، تدلُّ على عدم الثقة،

مع الإحساس بالفشل، فتُسلِّي نفسَك بهذا الخُلُق الذَّميم.

الشامِتُ محرومٌ من المحامِد الجميلة، والمسالِك الراقِية، والشعور الإنسانيِّ النبيل.

الشامِتُ لا يفرحُ بمُصيبةِ غيرِه إلا من لُؤمِ طبعِه؛

بل يُقرِّرُ أهلُ العلم أن الشماتةَ من أخلاق أهل النفاق،

فقد قال - عزَّ شأنُه - في وصف المُنافقين:

{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا

وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا }

[ آل عمران: 120 ].

معاشر المُسلمين :

ولقد استعاذَ نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم - من الشماتة وسُوئِها،

كما في الحديث الصحيح:

( اللهم إني أعوذُ بك من سُوء القضاء، ودرَك الشقاء، وشماتة الأعداء )

ولقد قال هارُون لأخيه موسى - عليهما السلام - كما في التنزيل العزيز:

{ فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ }

[ الأعراف: 150 ]

أي: لا تُفرِحهم بمُصيبتي.

يقول الشوكانيُّ - رحمه الله -:

[ استعاذَ - صلى الله عليه وسلم - من شماتة الأعداء وأمر بالاستعاذة منها،

لعِظَم موقعها، وشدَّة تأثيرها في الأنفُس البشرية، ونُفور طِباع الناس منها،

وقد يتسبَّبُ عُمقُ ذلك والاستِمرارُ عليه تعاظُم العداوة المُفضِية

إلى استِحلال ما حرَّم الله ]

يقول المناويُّ - رحمه الله -:

[ وإنما حسُن الدعاءُ بدفع شماتة الأعداء؛ لأن من له صِيتٌ عند الناس وتأمُّل

وجدَ نفسَه كمن يمشي على حبلٍ مُعلَّق، والأقرانُ والحُسَّادُ ينظرون وينتظرون

متى ينزلِق! ]

فيا عبد الله !

لا تشمت في أخيك، فيُعافِيه الله ويَبتَليك، ولكن خُذ العِبرة:

فعن واثِلة بن الأسقَع - رضي الله عنه - قال:

قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:

( لا تُظهِر الشماتةَ لأخيك، فيرحمُه الله ويَبتليك )

لا تشمت بأخيك مهما صغُر شأنُه، وظهر عيبُه، وبانَ نقصُه في أمر الدين أو الدنيا؛

فإن الشماتةَ تجلِبُ البلاءَ والابتلاءَ، ولكن تضرَّع إلى الله مُستعينًا به،

خائفًا مُستخفيًا، مُشفقًا على نفسِك وعلى أخيك، وقُل:

( الحمدُ لله الذي عافاني مما ابتُلِيَ به، وفضَّلَني على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلاً )

ومثلُ هذا الدعاء لو تأمَّلتَ - حفِظَك الله - لعلِمتَ أن المقصودَ به الوقاية والحذرُ

من الوقوع في الشماتة والاستِهزاء والسخرية والانتِقاص من إخوانِك.

معاشر المسلمين :

الزمنُ قُلَّب، والأيامُ دُوَل، فكم من غنيٍ افتقَر، وفقيرٍ اغتنَى، وعزيزٍ ذلَّ،

وذليلٍ عزَّ، ووضيعٍ ارتفَع، ورفيعٍ اتَّضَع، وقويٍّ ضعُف، وضعيفٍ قوِيَ، وسليمٍ ابتُلِي،

ومُبتلًى عُوفِي ؟!

والدهرُ حين يجرُّ بكَلكلِه على قومٍ فإنه يُنيخُ على آخرين،

وسيلقَى الشامِتون كما لقِيَ غيرُهم .

يقول ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -:

[ واللهِ لو أن أحدًا عيَّر رجلاً رضعَ من كلبة، لرضعَ هو من هذه الكلبة ]

وورد عن عُمر - رضي الله عنه - أنه قال:

[ واللهِ لو عيَّرتُ امرأةً حُبلَى لخشيتُ أن أحمل ]

ويقول إسماعيلُ الهرويُّ:

[ أيُّ عيبٍ عيَرتَ به أخاك فهو صائرٌ إليه ]

ويقول الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -:

[ أدركتُ أقوامًا لم تكُن لهم عيوب، فتكلَّموا في عيوب الناس فأحدثَ الله لهم عيوبًا،

وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوب، فسكَتوا عن عيوب الناس فسترَ الله عيوبَهم ]

كيف وقد جاء في حديث ثوبان - رضي الله عنه :

عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال :

( لا تُؤذُوا عبادَ الله ولا تُعيِّرُوهم ولا تطلبُوا عوراتهم؛

فإن من طلبَ عورةَ أخيه المُسلم طلبَ الله عورتَه، حتى يفضَحه في بيتِه )

رواه أحمد

ويقول إبراهيم النخعيُّ - رحمه الله -:

[ إني لأرى الشيءَ أكرهُه فما يمنعني أن أتكلَّم به إلا مخافةَ أن أُبتلَى به ]

ويقول ابن القيم - رحمه الله -:

[ ما من عبدٍ يَعيبُ على أخيه ذنبًا إلا وابتُلِيَ به،

فإذا بلغَك عن فُلانٍ سيئة فقُل من كل قلبِك: غفرَ الله لنا وله ]

يا عبد الله ! لا تُراقِب الناس، ولا تتبِّع عوراتهم، ولا تكشِف سِترَهم، ولا تتجسَّس عليهم،

اشتغِل بنفسِك، وأصلِح عيوبك؛ فلن تُسأل بين يدَي ربِّك إلا عن نفسِك،

والله أرحمُ بك وبهم منك ومن أنفُسهم .

بل إن المؤمنَ الصادقَ المُخلِص يُحبُّ أن يُعامل الناسَ بما يُحبُّ أن يُعامِلوه به،

على حدِّ قوله - صلى الله عليه وسلم -:

( لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُ لنفسه )

رواه البخاري .
ويقول ابن رجبٍ - رحمه الله -:

[ إنما يُحبُّ الرجلُ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه إذا سلِم من الحسَد والغلِّ والغشِّ والحِقد ]

ومن لطائِف معنى هذا الحديث: ما ذكرَه أبو الزناد، حيث قال:

[ ظاهرُه التساوي، وحقيقتُه التفضيل؛ لأن الإنسان يُحبُّ أن يكون أفضلَ الناس،

فإذا أحبَّ لأخيه مثلَه فقد دخلَ هو في جُملة المفضُولين ]