المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المجتمع المسلم بين الظنون والتماس المعاذير (02_02)


حور العين
11-10-2015, 04:55 PM
من: الأخت / غـــرام الغـــرام
المجتمع المسلم
بين الظنون والتماس المعاذير

خبَّاب بن مروان الحمد

الجزء الثانى - 02
• مع الظن السيئ وقفات:

يقول الله سبحانه وتعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }

[سورة الحجرات:13]
من تأمل في هذا الخطاب القرآني فإنه سيجد في سياق الآية الأمر بصيانة

الفكر واللسان عن القول السيئ، وعدم ظن السوء ، حتى لا يخاض فيه بالظن

القادح، ومن جميل ما طالعته من كلام أحد أهل العلم: فدلَّ سياق الآية على

الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدُّم النهي عن الخوض فيه بالظنِّ،

فإن قال الظانُّ: أبحث لأتحقق، قيل له:

{ وَلاَ تَجَسَّسُواْ }

، فإن قال: تحققتُ من غير تجسس، قيل له:

{ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا }

وذلك لأنَّ كثيراً منه ظن في غير محلِّه، وهنالك ظن مأمور به

وسنتحدث عنه في فقرة أخرى وعنوان جديد من هذه الدراسة،

فالظن المحظور يكون من قبيل سوء الظن بالمسلمين ومن ظاهرهم

العدالة والصدق والتقى، وهو المراد بالآية ، وما تناوله الحديث

الذي رواه

الصحابي الجليل أبوهريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

( إياكم والظن فإنَّ الظن أكذب الحديث )

أخرجه البخاري ومسلم.

قال ابن الأثير:

[ أراد بالظن الشك الذي يعرض للإنسان في الشيء فيحققه ويعمل به ] .
وأخرج الإمام أحمد وابو داود عن أبي هريرة قال:

قال رسول الله :
( حسن الظن من حسن العبادة )
وذلك لأنَّ من يحسن الظن بالآخرين؛ فإنَّه سيكف لسانه عن القيل والقال،

فلن يكذب على ذلك المظنون به، ولن يقوم بغيبته، ولن ينقل

هذا الكلام للآخرين، ولن يبهته ويظلمه حقَّه، فيكون

هذا كلّه من حسن العبادة!

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المسلمين حُسن الظن بأهلهم،

فقد جاءه رجل ويبدو أنَّه ظنَّ ظنَّ السوء في زوجه

فقال لرسول الله: "إن امرأتي ولدت غلامًا أسود.

( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟

قال: نعم.

قال: فما ألوانها؟

قال: حُمْرُ.

قال: هل فيها من أورق؟ يعني فيه سواد

قال: إن فيها لأورقًا.

قال: فأنى أتاها ذلك.

قال: عسى أن يكون نزعه عِرْقٌ.

قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عِرْق )

أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
لهذا كان لابدَّ من الظن المندوب ضداً واحترازاً من الظن المحظور،

بحسن الظن بالآخرين، فإن قيل: إذا كان سوء الظن محظورا فواجب

أن يكون حسن الظن واجبا، قيل له: لا يجب ذلك لأن بَيْنَهُمَا واسطة،

وهو أن لا يظن به شيئا، فإذا أحسن الظن به فقد فعل مندوبا إليه،

كما قال الجصَّاص في أحكام القرآن.

وهنالك من فصَّل في خطر الظن الخاطئ وأنَّه مجرد ما يقع في القلب

دون تكلُّم به،

فلقد روى الترمذي عن سفيان:

[ الظن الذي يأثم به ما تكلم به، فإن لم يتكلم لم يأثم. ]

وذكر ابن الجوزي مثل قول سفيان هذا عن المفسرين ثم قال:

[ وذهب بعضهم إلى أنه يأثم بنفس الظن ولو لم ينطق به. ]

لهذا فعلى المسلم حينما يسمع بأخيه شراً أو سوءاً ومثله لا يظن به

إلا الخير لصلاح سيرته وما يظهر من ظاهر حاله بالاستقامة

والصلاح والديانة، فإنَّه لا ينبغي الظن به إلا خيراً،

ولأجل ذلك قال تعالى في سياق حديث الإفك:

{ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا

وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ }

[سورة النور: 12.]

وعن سعيد بن المسيب قال:

[ كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله أنْ ضعْ أمر أخيك على أحسنه،

ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا،

وأنت تجد لها في الخير محملاً ]

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

[ لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءاً

وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجاً. ]

وقال أيضاً:

[ لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه. ]

وحينما سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الحديث الذي جاء فيه:

[ إذا بلغك عن أخيك شيء فاحمله على أحسنه حتى تجد له محملاً ]

ما يعني به؟

فقال

[ تقول تعذره، لعله كذا لعله كذا ]

وجاء في الأثر : إذا ظننتم فلا تحققوا وهو وإن كان منسوباً إلى

رسول الله بسند ضعيف، فإنَّ معناه صحيح، فالأصل أنَّ الشخص

حينما يظن ظنَّاً فعليه ألاَّ يحقق هذا الظن الذي يعرض في قلب الإنسان

ويوجب الريبة فيه.

ولقد قال الشاعر:

وأبغي صواب الظن أعلم أنه *** إذا طاش ظن المرء طاشت معاذره

روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

( رأى عيسى ابن مريم رجلا يسرق ، فقال له : أسرقت ؟

قال : كلا والله الذي لا إله إلا هو !

فقال عيسى : آمنت بالله ، وكذّبت عيني!

وما هذا إلاَّ لأنَّ ذلك الرجل أقسم بالله أنَّه لم يسرق،

وكذلك لربما كان هذا المال له، ولم يكن أخذا من غير حقه،

فسرعان ما تراجع رسول الله عيسى عليه السلام

وقال: آمنت بالله وكذبت عيني ).

وهنالك وللأسف من يسوء فعله فتسوء ظنونه، فيظن أنَّه بسبب

كثرة غيبته للآخرين فهو يظنُّ أنَّ فلاناً يغتابه.

وآخر بسبب كثرة نظره للحرام يظن الآخرين من أهل الصلاح مثله.

وآخر بسبب اقترافه للحرام فهو يظن الناس أنَّهم مثله

في اقترافهم للحرام ! وآخر يسوء ظنُّه بسبب حقده الدفين على الصادقين،

وخير مثال على ذلك ما قام به رأس النفاق والمنافقين

عبد الله بن أبي بن سلول في إساءة الظن

بعائشة الصديقة رضي الله عنها.

ومن خالط الأشرار لن يظن بالأخيار خيراً، بسبب تشويه سمعة الأشرار للأخيار،

وكذلك لأنَّهم يؤزُّونه أزَّاً إلى أن يظن بالصالحين ظن السوء.

وصدق المتنبي القائل:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدَّق ما يعتاده من توهم!

ومن الغريب في ذلك أني وجدت بعض من يسيئ الظن بالآخرين،

حتَّى إنَّه يسيء الظن بامرأته وزوجته والتي يهيم بها حبَّاً وولهاً وإعجاباً،

ولكنَّه من شدَّة غيرته عليها يسوء ظنُّه بها فقد يظن

بها أموراً لا تحمد عقباها من قبيل الخلوة بأجنبي وشيء من هذا القبيل

وهذه في الحقيقة غيرة مذمومة، حينما نعلم بداهة أنَّ زوجة ذلك الرجل

من الزوجات الصالحات أو الحافظات لفروجهنَّ واللواتي لا يتخذن أخدانا!

وتذكرت إذ ذاك قول الشاعر العربي حينما قال:

وإني بها في كل حال لواثق --- ولكن سوء الظن من شدة الحب
وقد قال صلى الله عليه وسلم:

( من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله فأما التي يحبها الله

فالغيرة في الريبة وأما الغيرة التي يبغضها الله

فالغيرة في غير ريبة )

أخرجه أحمد وأبو داود عن جابر بن عتيك.
• لكن الظن السيئ له وقته ومجاله فلا تعارض !
حينما قال تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }

[ سورة الحجرات13 ].

في هذه الآية كذلك يبين الله تعالى لنا أنَّ بعض الظن إثم،

وهذا يدل على أنَّ هنالك ظناً محموداً وليس إثما،

ما يدل على أنَّه ليس كل الظن إثم.

فالأصل اجتناب الظن، إلاَّ إذا دعت الحاجة إلى ظن السوء

فيمكن استخدامه بسبب أمارات وعلامات وحقائق تدلِّل على ذلك.

وممَّن نبَّه على ذلك الإمام الجصاص والقرطبي وغيرهما ،

بل هو واضح من مراد الآية وسياقها، فلو أنَّ شخصاً قامت القرينة

والبينة على أنَّه أهل لذلك الظن القادح به فإنَّ هذا الظن يكون في

حقه مشروعاً،

ولهذا كان العلماء يقولون:

[ رحم الله امرءاً كفَّ الغيبة عن نفسه ]

وذلك لكي لا يجعل من نفسه مادة تلاك بين ألسن الناس بسبب تصرفاته

وأفعاله التي لا تشي ولا تنمي إلاَّ بالفعل القبيح الذي يجعل الناس لا يستخدمون

إلاَّ الظن السيئ فيه وفي أمثاله، ولهذا من الأمثال المضروبة

السائرة: (احترسوا من الناس بسوء الظن)، والأمر ليس على إطلاقه

ولكن المقصود احترسوا من الناس الذين تقوم القرينة على تصرفاتهم السيئة

وسيرتهم الفاسدة فيمكن الاحتراس منهم بسوء الظن.
لقد قال أبو حازم
[ العقل التجارب والحزم سوء الظن. ]
وقال أبو حامد الغزالي:
[ أمارة عقد سوء الظن أن يتغير القلب معه عما كان،

فينفر عنه نفورا ما، ويستثقله، ويفتر عن مراعاته وتفقده

وإكرامه والاغتمام بسببه، فهذه أمارات عقد الظن وتحقيقه. ]

والإمام ابن حزم الأندلسي يقول:

[ وأما سوء الظن فيعده قوم عيباً على الإطلاق،

وليس كذلك إلاَّ إذا أدَّى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة،

أو إلى ما يقبح في المعاملة، وإلاَّ فهو حزم،

والحزم فضيلة ]

لهذا نجد في كتب السير والأخلاق

أنَّ عمر بن الخطاب روي عنه أنَّه قال:

[ مَن دخل مداخل السوء فلا يلومن مَن أساء به الظن ]