المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه


حور العين
12-19-2015, 02:28 PM
من:الأخت / الملكة نــور
قواعد قرآنية
القاعدة الثامنة عشرة:
{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه }
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة

وهو الحكيم الخبير، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على معلم الناس الخير،

نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله ، وعلى وصحبه

والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،

فهذا موعد جديد لموضوعنا المتنور:

( قواعد قرآنية )،

نعيش فيها مع قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل مع الخلق،

تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها

قول الله تعالى:

{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه }

[ فاطر: 43 ].

وهذه القاعدة القرآنية جاءت ضمن سياق آيات في سورة فاطر،

يحسن ذكرها ليتضح معناها،

يقول تعالى عن طائفة من المعاندين:

{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ

لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيْقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلا بَأَهْلِه

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا

وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }

[ فاطر: 42، 43 ].
ومعنى هذه القاعدة التي تضمنتها هذه الآية باختصار:

أن هؤلاء الكفار المعاندين أقسموا بالله أشد الأَيْمان لئن جاءهم رسول من عند الله

يخوِّفهم عقاب الله ليكونُنَّ أكثر استقامة واتباعًا للحق من اليهود والنصارى وغيرهم،

فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم ذلك إلا بُعْدًا عن الحق ونفورًا منه،

وليس إقسامهم لقَصْد حسن وطلبًا للحق، وإنما هو استكبارٌ في الأرض على الخلق،

يريدون به المكر السيِّئ، والخداع والباطل، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله،

فهل ينتظر المستكبرون الماكرون إلا العذاب الذي نزل بأمثالهم الذين سبقوهم،

فلن تجد لطريقة الله تبديلاً ولا تحويلاً فلا يستطيع أحد أن يُبَدِّل،

ولا أن يُحَوِّل العذاب عن نفسه أو غيره .

وهذا المعنى الذي قررته هذه القاعدة، جاء معناه في آيات أخر من كتاب الله تعالى

تأمل قوله عز وجل :

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ }

وقولَه تعالى:

{ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُث عَلَى نَفْسِهِ }

بل قد قرر الله تعالى أن هذا الأسلوب وهو المكر إنما هو منهجٌ

من مناهج أعداء الرسل مع الأنبياء والرسل،

فقال تعالى في سورة الرعد:

{ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا

يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ }

[ الرعد: 42 ]،

وقال عز وجل:
{ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }

[ إبراهيم: 46].

وأما الأمثلة الفردية التي تبين معاني هذه القاعدة،

فكثيرة في كتاب الله تعالى، لكن حسبنا أن نشير إلى بعضها، فمن ذلك:

1 ـ ما قصه الله تعالى عن مكر إخوة يوسف بأخيهم، فماذا كانت العاقبة؟

يقول تعالى:

{ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ }

[ يوسف: 102 ]

صحيح أن إخوته تابوا، لكن بعد أن آذوا أباهم وأخاهم بأنواع من الأذى،

فعاد مكرهم على غير مرادهم، وفاز بالعاقبة الحسنة،

والمآل الحميد من صبر وعفى وحلَم.

2 ـ وتأمل في قول الله تعالى عمن أرادوا كيداً بنبي الله عيسى؛:

{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }

[ آل عمران: 54 ]!

3 ـ ولما تحايل المشركون بأنواع الحيل لأذية نبينا صلى الله عليه وسلم،

قال الله عنهم:

{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ

وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }

[ الأنفال: 30 ].

وأما في السنة، وفي التاريخ فكثيرٌ جداً، ومن قرأ التاريخ قراءة المتدبر المتأمل،

وجد من ذلك عبراً، وأدرك معنى هذه القاعدة القرآنية المحكمة:

{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه }.

ولهذا، ولما كان المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً،

والكيدُ له عظيماً، سلاه الله بآية عظيمة، تبعث على الثقة والطمأنينة،

والأمل والراحة، ليس له صلى الله عليه وسلم وحده، بل لكل داعية

يسير على نهجه ممن قد يشعر بكيد الكائدين ومكر الماكرين،
فقال تعالى ـ:
{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ

وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }

[ النحل: 127، 128 ].

فالله حافظه من المكر والكيد، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته

لا يبتغي من ورائها شيئاً لنفسه، ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره،

ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة:

{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }

ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون،

والمهم أن يحفظ سياج التقوى، ولا يقطع إحسانه إلى الخلق،

ثم ليبشر بعد ذلك ببطلان كيد الماكرين

أيها القارئ المحب لكلام ربه:

لعلك تلاحظ أن المكر ـ في هذه القاعدة القرآنية:

{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه }

ـ لعلك تلاحظ أن المكر أضيف إلى السوء،

وهذا يوضح أن المكر من حيث هو لا يذم ولا يمدح إلا بالنظر في عاقبته،

فإن كان المكرُ لغاية صحيحة فهو ممدوح، وإلا فلا،

ومن بلاغة البيان القرآني التعبير بالحيق مع كلمة المكر،

في قوله:

{ وَلَا يَحِيقُ }

فالعرب تقول حاق به المكروه يحيق به حيقاً، إذا نزل به وأحاط به،

ولا يطلق إلا على إحاطة المكروه خاصة، فلا تقول حاق به الخير،

بمعنى: أحاط به.

ولعلك تتأمل معي ـ أيها المستمع الكريم ـ في الحكمة من اتباع هذه القاعدة القرآنية

بقوله تعالى ـ:

{ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا

وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا }

ليتبين أن هذه القاعدة القرآنية مطردة، وفي ذلك من التحذير من مكر السوء

ما فيه، لمن تدبر ووعى، كما سبق في ذكر الآيات الكريمة الدالة على ذلك.

وإذا تقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،

فإنه يدخل في هذه الآية كل مكرٍ سيء

يقول العلامة ابن عاشور: مبيناً علة اطراد وثبات هذه القاعدة

{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه }:

[ لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض،

والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض؛

لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضاً تنكر

بعضهم لبعض، وتبادروا الإضرار والإهلاك؛ ليفوز كل واحد بكيد الآخر

قبل أن يقع فيه؛ فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم، والله لا يحب الفساد،

ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء.

وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها،

وقد قال الله تعالى:

{ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ }

وفي كتاب ابن المبارك في "الزهد" بسنده عن الزهري

بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

( لا تمكر، ولا تُعن ماكراً فإن الله يقول:

{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه })

ومن كلام العرب: من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً!.

فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية، ومعجزات قرآنية،

ومعجزات نبوية خفية.

أيها الممعن النظر:

وإذا أردنا أن ننظر في آثار هذه القاعدة

{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه }

على أهلها في الدنيا والآخرة، فلنتأمل هذه القصص التي ذكرها ربنا

في كتابه عن أهل المكر بأوليائه والدعاة إلى سبيله، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره

عن جملة من الأنبياء، نجد أمثلة أخرى لأتباعهم، نجاهم الله فيها من مكر الأعداء، ومن ذلك:

ـ فهذا فرعون! كم كاد لبني إسرائيل لمّا آمنوا به!

ومن جملتهم ذلك الرجل الذي عرف بـ مؤمن آل فرعون الذي قصّ الله خبره

في سورة غافر!

تأمل قوله تعالى:

{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ

أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }

[ غافر: 45، 46 ]

فنجى الله المؤمن، وأما فرعون وجنوده فهم الآن،

بل منذ ماتوا وهم يعذبون وإلى يوم القيامة.

ـ وهذا الإمام البخاري: صاحب الصحيح كان كثير من أصحابه

يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك! فيقول:

{ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }

[ النساء 76 ]

ويتلو أيضاً:

{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه }

[ فاطر: 43 ]

، فقال له أحد أصحابه: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك

ويتناولونك ويبهتونك؟ فقال:

قال النبي صلى الله عليه وسلم:

( اصبروا حتى تلقوني على الحوض )

ـ وقد ذكر ابن القيم:أمثلةً تطبيقية وعملية من واقع الناس لهذه القاعدة:

{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه }

[ في سياق حديثه عن المتحايلين على الأحكام الشرعية،

كالمتحايلين على أكل الربا ببعض المعاملات، أو يحتالون على بعض الأنكحة،

وأمثال هؤلاء،فقال:

فالمحتال بالباطل مُعَاملٌ بنقيض قصده شرعاً وقَدَرَاً، وقد شاهد الناس