المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لا تغامر بثمرة فؤادك {{الجزء الخامس والأخير }}


vip_vip
03-11-2011, 11:52 AM
لا تغامر بثمرة فؤادك


محمود الزاهد


الجزء الخامس والأخير






فالْمُلاحظ هنا: أنَّ الولد صار عنده اتِّجاه قويٌّ نَحو حبِّ القراءة والمعرفة، وهذا الاتِّجاه ليس مُطْلقًا، بل مقيَّدًا ببعض التفضيلات التي نشأ وترعرع عليها.
فالْمُهم أن يَحْرص الآباءُ على تكوين الاتِّجاهات الجامعة لِخِصال الخيْر، وغَرْس القِيَم منذ بداية النَّشأة في الْمَراحل العمريَّة الْمُبكِّرة وحتَّى ما قبل مرحلة الْمُراهقة التي لَها ما يُلائمها في المنهج التربويِّ العمَلي.
حول مراحل النمو:
يَمُرُّ الأطفال بِمَراحل نُمُو مُختلفة، تتنامى فيها إدراكاتُهم ومعارِفُهم، وفي كلِّ مرحلةٍ يُمكن غرس مَجْموعات من القِيَم داخل تكوين الطِّفل والتدرُّج في تلقينه هذه المبادِئَ كمًّا وكيفًا، لكن مع معرفة هذه الْمَراحل إلا أنَّها متداخلة، كما أنَّ هناك فروقًا واختلافاتٍ بين طفل وآخَر: في درجة الاستيعاب، ومدى استعداده لتلقِّي الْمعارف ونوع المعلومة الْمَطروحة، كلُّ هذه الفروق تجعل من الصعوبة بِمَكان تحديدَ سنٍّ معيَّن لِغَرس قيمة معيَّنة بِهَذا الشكل الْجَدولي التفصيلي.
لكن الْمُمكن هو أن نحدِّد الْمَطلوب في مرحلة عمريَّة كاملة، ونقوم بالتوجيه والتَّلقين وفْقَ مدْرَكات الطفل، وكلَّما ازدادت مدركاته ازدادَت الْجرعة التي نقوم بتعاهده بِها، ونوع التوجيه الذي يلائمه، ويناسب مدركاته، مع العلم بأنَّ تقدير وقياسَ مدى التنامي في مدركات الطِّفل يَحْتاج إلى ملاحظةٍ، وتَحليل لسلوكه، وردودِ أفعاله، وأيضًا يَحتاج إلى خبْرة ومهارة من المربِّي؛ لتطوير الْخِطاب التربويِّ، والترَقِّي بِمُستويات التربية.
ولتوضيح هذه الفكرة؛ نَنْظر مثَلاً على مستوى الإدراك الْمعرفِيِّ إلى موضوعٍ مثل "الغيبيَّات"؛ حيث يَحْسن أن نلتفت إلى أمرٍ مهم:
وهو أنَّ الطفل في مراحله الأولى لا ينبغي خِطابُه بكثيرٍ من الغيبيَّات، مثل: "الْجنَّة - النَّار - الجن - الملائكة - الشياطين"؛ حيث إنَّ هذا من شأنه نُموُّ صورة تَخيُّلية في نفْس الولد، غالِبًا ما تكون ساذجة أو سطحيَّة؛ لأنَّه يقتبسها من الْمَعارف المُحيطة به بِحَسب مدركاته العقليَّة، هذه الصُّورة يَحْتاج تغييرها فيما بعد إلى مَجهودٍ كبير لِتُوافق التصوُّر الإسلاميَّ العقَدِيَّ الصحيح.
فمثلاً: معظم الأطفال يتخيَّل الشيطان في صورةٍ مُخوِّفة، وأنَّه قبيح الْمَنظر، مُرْعِب لِمَن يراه، له قرنان وعينان حَمْراوتان، وينشأ في نفسه الشُّعور بالْخَوف من الشَّيطان وهو تصوُّرٌ غيْر سليمٍ بالْمفهوم العقدي، بل المطلوب تنمية الشُّعور بعداوته وبُغْضِه؛ لِمَعصيته لله، والحذر من مكايده.
أمَّا الْخِطاب عن الله وغَرْس مَحبَّتِه وخشيته في فلذات الأكباد، فالأمر مُختلف؛ فمعرفة الله أمْرٌ مركوز في الفطرة مِمَّا يعين على الحديث عن الله في مراحِلَ مبكِّرة من العمر.
فيقوم المربِّي باستخدام المواقف الحياتيَّة التي يتعرَّض لَها الطِّفل في تعزيز مَحبَّتِه لله، ويُراعى أن نستخدم مدركات الطِّفل في هذا الحديث، فمثلاً عندما يتعرَّف الطِّفل على المرض نَرْبط طلب الشِّفاء ونَنْسبه إلى الله، فيُدْرِك ذلك ويعرفه بأنَّه يَشْفِي الْمَرضى.
وهكذا يعرف الطفل ربَّه بأنه هو الْمُنعِم بكلِّ ما حوله من النِّعم، وهو الواهب، صاحب الإحسان، كثير العطايا، وأنَّه يكشف الكُروب وتدرك رحمتُه العبدَ في المِحَن، فيزيلها ويكفيه شرَّها، فينمو حبُّ الله في قلبه، "فالنُّفوس مَجْبولة على محبَّة من أحسن إليها"، ويتعلَّق قلبه بالله في قصده وسؤاله.
أيضًا يعرف الطفل ربَّه بأشياء مستمَدَّةٍ من سلوك الآخرين مع الله؛ فعندما يُلاحِظ إجلالَ المربِّي لله ولكلماتِه، وتعظيمَه لكتابِه ولشعائرِه، وتوقيرَه لذِكْرِه، كلُّ هذا تنتقِلُ آثارُه للولد في صورة تَقْديسٍ وتعظيم لِحُرمات الله، وخشيةٍ من المساس بأمر يورث سخط الله وغضبَه.
وهكذا يتمُّ بناء التصوُّر الإيمانِيِّ، ويزداد كلَّ يوم بتطوُّر الْخِطاب؛ حتَّى يصير مؤهَّلاً للخِطاب القرآنِيِّ الْمُباشر؛ وفي حينها سيكون لدَيْه رصيدٌ كافٍ لتلقِّي القرآن والعمل به "نور على نور".
فالْمَطلوب أن يكون لدينا دليلٌ عمَليٌّ، ومنهج مفصَّلٌ لتربية أبنائنا على مستوى الْمَراحل العمريَّة، ومن ثَمَّ نستطيع كلَّ يوم أن نعرف أين نحن من هذا المنهج، ونقيس مدى نَجاحِنا وإخفاقِنا في تحقيقه.
تحديد الأهداف والغايات:
كثير من الآباء - الجادِّين - منتهى أمَلِه أن يتمَّ ولَدُه حفْظَ القرآن الكريم كاملاً، وهو هدف جميل، وغاية سامية، لكنَّها ليست هي منتهى الغايات، فحِفْظ كتاب الله أوَّل الطريق لفهمه والفِقْه فيه، وبداية لِمَعرفة السُّنة، ومِن ثَمَّ العمل بِهما.
فكَما نَهْتمُّ بالقرآن حفظًا، لا بد أن نَهتمَّ بتعلُّم أحكامه كما كان أصحابُ النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفعلون، ولا بد كذلك ألاَّ يشغلنا ذلك عن دراسة السُّنة؛ لأنَّها - مع القرآن - طريق واحد للنَّجاة، وحبلٌ للاعتصام من الزَّيغ والضَّلال، وعليهما مدار الدِّين، وبِهما يتلقَّى المسلم أمور دينه.
حتَّى إنَّ معرفة الاعتقاد الصَّحيح، واتِّباع صراط الله المستقيم - وهو أوجَبُ الواجبات وأولاها وأوَّلُها - لا يكون إلاَّ من خلال الكتاب والسُّنة معًا.
الهروب أو توزيع الأدوار:
بعض الآباء - الْحريصين - يوكل مسؤوليَّتَه كاملةً إلى غيْره، فيقوم بتوزيع أدواره على المُحيطين به، فينال الأُمَّ قسطٌ كبيرٌ من مهامِّه، ويستخلف معلِّمًا لِيَقوم بقسط ثانٍ، أو يرسله إلى أحد الأقارب؛ لِيَسدَّ القسط الباقي.
وبذلك يظنُّ أنَّه قد أفرغ يده من أبنائه، وأدَّى ما عليه تُجاههم دون تقصيرٍ أو إهْمال.
ولكن الأمر ليس كذلك؛ فمن الذي يَضْمن لك قيامَ هؤلاء بواجبهم؟ ومَن الذي أدراك بكفايتهم في أداء دَوْرِك؟ وكيف تبلغ بك المُجازفة إلى هذا الحدِّ؟ فعلى كلِّ حرْصِك عليهم فأنت مُغامِر بِهم؛ لأنَّ دورك الحقيقيَّ معهم لا يعوضه غيْرُك، وتأَسِّيهم بك مقرونٌ بأبُوَّتِك لَهم، فكلُّ ما فعَلْتَه خيْرٌ بك، وليس بدونك، فدَعْ هؤلاء - إن كانوا أهلاً لذلك - يشاركونك ويعينونك، لا أن تشركهم أنت في فلذات كَبِدك.
فانتبه - رعاك الله - لنفسك ولثمرات فؤادك، ولَقِّنهم الكتاب والسُّنة حروفًا ومعانِيَ، وحفظًا وفهمًا وتطبيقًا.
وأخيرًا لا أدَّعي في هذه الإضاءات أنِّي أصوغ منهجًا عمَليًّا للتربية، ولكنِّي قصدْتُ أن ألفت النَّظر إلى أهَمِّية المنهج التطبيقيِّ الْمُنضبط، وضرورة التأهيل التَّربوي، ومهما كان هذا الأمر مُجْهدًا ومكلِّفًا، ويَحْتاج إلى بَحثٍ وتَحرٍّ مُضْنٍ، فالْمَسؤولية أكبَرُ من هذه الكلفة، وهذا الجهدِ المبذول.
فعن عبْدالله بْن عمر - رضي الله عنهما - قال: سَمعْتُ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((كلكمْ راعٍ، وكلُّكمْ مسْؤولٌ عنْ رعيته؛ الإمام راعٍ ومسْؤولٌ عنْ رعيته، والرجل راعٍ في أهْله وهو مسْؤولٌ عنْ رعيته، والْمرْأة راعيةٌ في بيْت زوْجها ومسْؤولةٌ عنْ رعيتها، والْخادم راعٍ في مال سيِّده، ومسْؤولٌ عنْ رعيته))، قال: وحسبْتُ أنْ قدْ قال: ((والرجل راعٍ في مال أبيه ومسْؤولٌ عنْ رعيته، وكلُّكمْ راعٍ ومسْؤولٌ عنْ رعيته))؛ أخرجه البخاري.