vip_vip
03-12-2011, 12:58 PM
55 خطبتى صلاة الجمعة بعنوان / ( العفــــو )
الأخ فضيلة الشيخ / نبيل عبدالرحيم الرفاعى
أمام و خطيب مسجد التقوى - شارع التحلية - جدة
حصريــاً لبيتنا و لتجمع الجروبات الإسلامية الشقيقة
و سمح للجميع بنقله إبتغاء للأجر و الثواب
================================================== ================================
الحمد لله القويِّ الحليم ،
{ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }
[الشورى:25] .
أحمده سبحانه و أشكره ، و أتوب إليه و أستغفره ،
لا يسأل عما يفعل و هم يسألون ،
و أشهَد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له ، يُطاع فيشكُر ، و يُعصَى فيغفِر ،
{ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
[القصص:70] ،
و أشهد أنَّ سيدنا و نبينا محمّدًا عبد الله و رسولُه و صفيّه و خليله ،
تركنا على المحجَّة البيضاء ، ليلُها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالِك ،
فصلوات الله و سلامه عليه ، وعلى آلهِ الطيِّبين الطاهرين ،
و على أصحابهِ و التابعين ، و من تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أمّـــا بعـــد :
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله ، و خيرَ الهدَى هديُ سيدنا محمّد صلى الله عليه و سلم ،
و شرَّ الأمور محدثاتها ، و كلَّ محدثة بدعة ، و كلَّ بدعة ضلالة .
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله ، و أعلموا أنَّما هذه الحياة الدنيا متاع ، و أنَّ الآخرة هي دار القرار ،
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
[المائدة:100] .
أيّها الناس ، سلامة صدرِ المرء من البغضاء و خُلوّ نفسِه من نزعةِ الانتصار
للنَّفس و التشَفِّي لحظوظِها لهي سِمَة المؤمن الصالح الهيّن اللَّيِّن الذي لا غلَّ فيه
و لا حسَد ، يؤثر حقَّ الآخرين على حقِّه ، و يعلم أنَّ الحياةَ دارُ ممرٍّ و ليسَت دار مَقرٍّ ؛
إذ ما حاجةُ الدنيا في مفهومه إن لم تكُن موصِلَةً إلى الآخرة ؛
بل ما قيمةُ عيشِ المرء على هذه الأرض و هو يَكنِزُ في قلبه حبَّ الذات و الغِلظة و الفَظاظَة
و يُفرِزُ بين الحين و الآخر ما يؤكِّد من خلالِه قَسوَةَ قلبِه و ضيق صدره ؟!
ما أكثَرَ الذين يبحَثون عن مصادرِ العزِّة و سبُلها و التنقيب عنها يمنةً و يَسرةً
مهما بلَغ الجَهدُ في تحصيلها ، مع كثرَتِها و تنوُّع ضُروبها ،
غيرَ أنَّ ثمَّةَ مصدرًا عظيمًا من مصادرِ العزَّة يغفل عنه جلُّ النّاس مع سهولَتِه
و قلَّة المؤونةِ في تحصيله دون إجلابٍ عليه بخيلٍ و لا رَجلٍ ؛
إنما مفتاحُه شيءٌ من قوَّةِ الإرادة و ذمِّ النفسِ عن استِتمامِ حظوظها و أستيفاءِ كلِّ حقوقِها ،
يتمثَّل هذا المفتاحُ في تصفِيَة القلب من شواغلِ حظوظ الذّات و حبِّ الأخذ دون الإعطاءِ .
هذه العزّةُ برمَّتها يمكِن تحصيلُها في ولوجِ المرء بابَ العفو و الصَّفح و التسامح و المغفرة ،
فطِيبُ النفس و حسنُ الظنّ بالآخرين و قَبول الاعتذار و إقالةُ العثرة و كَظم الغيظ
و العفوُ عن الناس كلُّ ذلك يعَدّ من أهمِّ ما حضَّ عليه الإسلام في تعامُل المسلمين
مع بعضِهم البعض . و مَن كانت هذه صفَته فهو خليقٌ بأن يكونَ من أهل العزَّة و الرفعة ؛
لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلم قال :
(( ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ ، و ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا ،
و ما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه ))
رواه مسلم ،
و في لفظٍ لأحمد :
(( ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره )) .
فهذِه هي العِزَّة يا باغيَ العزة ، و هذه هي الرِّفعة يا من تنشُدُها .
إنها رِفعة و عِزّة في الدنيا و الآخرة ، كيف لا و قد وعد الله المتَّصفِين بها بقولِه :
{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ }
[آل عمران:133، 134] ؟!
و الكاظِمونَ الغيظَ ـ عباد الله ـ هم الذين لا يُعْمِلون غضَبَهم في الناس ،
بل يكفّون عنهم شرَّهم ، و يحتسِبون ذلك عند الله عز و جل ،
أمّا العافون عن الناس فهم الذين يعفونَ عمَّن ظلمَهم في أنفسهم ،
فلا يبقَى في أنفِسهم موجِدَة على أحدٍ . و من كانت هذه سجيَّته فليبشِر بمحبَّةِ الله له
حيث بلَغَ مقامًا من مقاماتِ الإحسان ،
{ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ }
[آل عمران:134] .
و إذا أحسن العبد أحبَّه الله ، و من أحبَّه الله غفَر له و رحمة ،
{ إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ }
[الأعراف:56] .
العفو ـ عبادَ الله ـ شِعار الصالحين الأنقِيَاء ذوِي الحِلم و الأناة و النّفس الرضيّة ؛
لأنَّ التنازلَ عن الحقِّ نوعُ إيثارٍ للآجلِ على العاجل و بسطٍ لخُلُقٍ نقيٍّ تقيٍّ
ينفُذ بقوّةٍ إلى شِغاف قلوب الآخرين ، فلا يملِكون أمامه إلا إبداءَ نظرةِ إجلالٍ
و إكبار لمن هذه صفتُه و هذا ديدَنُه .
إنَّ العفو عن الآخرين ليس بالأمرِ الهيِّن ؛
إذ له في النّفسِ ثِقلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار و الانتقامِ للنفس ،
و لا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس و رغباتها
و إن كانت حقًّا لهم يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله تعالى :
{ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ }
[الشورى:41] ،
غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ و ملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ
و خَرق العادات . و مِن هنا يأتي التميُّز عن العُموم ،
و هذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين و غيرهما
عن النبي صلى الله عليه و سلم ،
و قد أخرج الإمام أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ صلى الله عليه و سلم :
(( من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق
حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء )) .
أيّها المسلمون ، إنَّ شريعتَنا الغرّاء يوم حضَّت المسلمِين على التخلُّق
بخلقِ العفو و التجاوُز لم تقصِر ذلك في نطاقٍ ضيق أو دائرة مغلَقَة ،
بل جعلتِ الأمرَ فيه موسَّعًا ليشمَلَ جوانبَ كثيرةً من شؤونِ التّعامُل العَامّ و الخاصّ ،
فلقد جاء الحضُّ من الشارع الحكيم للقيادة الكُبرى و أهلِ الولاية العظمى بذلك ؛
لأنَّ تمثُّل القيادَةِ بسيما العفوِ و التسامُح أمارةٌ من أمارات القائدِ الناجحِ
كما أمرَ الله نبيَّه صلى الله عليه و سلم في قولِه :
{ خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ }
[الأعراف:199] ،
و كما في قوله تعالى :
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ }
[آل عمران:195] .
بل إنَّ الحضَّ على العفوِ قد تعدَّى إلى ما يخصّ تبايُع الناس و شراءَهم و مدايناتهم ،
فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم :
(( من أقال مسلمًا بيعتَه أقال الله عثرتَه ))
رواه أبو داود و ابن ماجه ،
و قال صلوات ربى و سلامه عليه و على آله و صحبه :
(( كان تاجرٌ يدايِن الناس ، فإذا رأَى معسِرًا قال لفتيانه :
تجاوَزوا عنه لعلَّ الله أن يتجاوز عنّا ، فتجاوَز الله عنه ))
رواه البخاري و مسلم .
وجاء رجل إلى النبيِّ صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ،
كم نعفو عن الخادم ؟ فصمَت ، ثم أعادَ عليه الكلام فصمَت ، فلمّا كان في الثالثة قال :
(( أعفوا عنه في كلِّ يومٍ سبعين مرة ))
رواه أبو داود والترمذي .
و بعدُ يرعاكم الله : فإنّ العفو و التجاوز لا يقتضِي الذّلَّةَ و الضعف ،
بل إنه قمَّة الشجاعة و الامتنانِ و غلَبَة الهوى ،
لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار ،
فقد بوَّب البخاريّ رحمه الله في صحيحه بابًا عن الانتصارِ من الظالم لقوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ }
[الشورى:39] ،
و ذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله :
" كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا ، فإذا قدروا عفَوا " ،
قال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما :
( لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه ) ،
و قال جعفرُ الصادِق رحمه الله :
" لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة " ،
ثم إنَّ بعض الناس ـ عباد الله ـ قد بلغ من القسوةِ ما لا يمكن معها أن يعفوَ لأحد
أو يتجاوَز عنه ، لا ترونَ في حياته إلاّ الانتقام و التشفِّي .
ترونَه و ترونَ أمثالَه كمثَل سماءٍ إذا تغيَّم لم يُرجَ صَحوُه ، و إذا قَدر لا يُنتَظَر عفوه ،
يغضِبُه الجرمُ الخفيّ ، و لا يرضيه العذرُ الجليّ ،
حتى إنّه ليرَى الذنبَ و هو أضيقُ من ظلِّ الرمح ،
و يعمَى عن العذرِ و هو أبيَنُ من وضَح النهار .
ترونَه ذا أُذنين يسمَع بإحداهما القولَ فيشتطّ و يضطرب ،
و يحجبُ عن الأخرَى العذرَ و لو كان له حجّةٌ و برهان .
و مَن هذه حالُه فهو عدوُّ عقلِه ،
و قد استولى عليه سلطان الهوَى فصرفَه عن الحسنِ بالعفوِ إلى القبيح بالتَّشفِّي ،
تقول عائشة رضي الله تعالى عنها :
{ ما ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئًا قطّ بيده ، و لا امرأة و لا خادمًا ،
إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله ، و ما نيل منه شيء قطّ فينتَقِم من صاحبه
إلاّ أن يُنتَهَك شيء من محارِم الله فينتَقِم لله عز و جل } .
رواه مسلم .
ألا إنَّ الانتصارَ للنفس من الظلمِ لحقّ ، و لكنَّ العفوَ هو الكمالُ و التّقوى ،
{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }
[الشورى:40] .
باركَ الله لي و لكم في القرآنِ العظيم ،
و نفعني و إيّاكم بما فيه من الآيات و الذّكر الحكيم ،
قد قلت ما قلت ، إن صوابًا فمن الله ، و إن خطأً فمن نفسي و الشيطان ،
و أستغفر الله إنّه كان غفّارًا .
http://us.mg4.mail.yahoo.com/ya/download?mid=1%5f66455%5fAOkNw0MAAORcTTjMFQKoEQUwm sA&pid=9&fid=adnan&inline=1
الحمد لله المحمودِ في عليائِه ، حمدًا يليق بعظمته و كبريائِه ،
أحمده تعالى و أشكره ، و أثني عليه و أستغفِره ، و أسأله المزيدَ من فضله و عطائِه ،
و أشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تبارك في صفاته و أسمائه ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمّدًا عبده و رسوله و خيرتُه من خلقه و أنبيائه ،
صلّى الله عليه و على آله و أصحابه و التابعين و مَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم لقائِه .
و بعد : فأتّقوا الله أيها المسلمون ،
و أعلَموا أنَّ حث الشريعة على العفوِ و التجاوُز لم يكن مقتصِرًا على العفو
في الظاهرِ دون الباطن ، بل إنَّه عمَّ الظاهر و الباطنَ معًا ،
فأطلق على الظاهر لفظَ العفو ، و أطلق على الباطنِ لفظ الصَّفح ،
و العفوُ و الصفح بينهما تقارُبٌ في الجملة ، إلاَّ أنَّ الصفحَ أبلغ من العفو ؛
لأنَّ الصفح تجاوزٌ عن الذنبِ بالكلية و أعتباره كأن لم يكن ،
أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاطَ اللوم الظاهر دونَ الباطن ،
و لذا أمَر الله نبيَّه صلى الله عليه و سلم به في قولِه :
{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }
[الحجر:85] ،
و هو الذي لا عتاب معه .
و قد جاءتِ الآيات متضَافِرةً في ذكرِ الصفح و الجمعِ بينه و بين العفو كما في قولِه تعالى :
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ }
[المائدة:13] ،
وقوله :
{ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }
[البقرة:109] ،
و قوله سبحانه :
{ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[التوبة:22] ،
و قوله سبحانه :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ
وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[التغابن:14] .
العفو و الصّفح ـ عباد الله ـ هما خلُقُ النبيّ صلى الله عليه و سلم ،
فأين المشمِّرون المقتَدون ؟!
أين من يغالِبهم حبُّ الانتصار و الأنتقام ؟!
أين هم من خُلُق سيِّد المرسَلين صلى الله عليه و سلم ؟!
سئِلَت أمنا أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها و عن أبيها
عن خلُق رسولِ الله صلى الله عليه و سلم فقالت :
( لم يكن فاحِشًا و لا متفحِّشًا و لا صخَّابًا في الأسواق ،
و لا يجزِي بالسيِّئة السيئة ، و لكن يعفو و يصفح ) .
رواه أحمد و الترمذي و أصله في الصحيحين .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
{وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ }
[الشورى:36، 37] .
هذا وصلّوا ـ يرحمكم الله ـ على خير البريّة و أزكى البشريّة
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم
صاحبِ الحوض و الشفاعة ، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه ،
و ثنَّى بملائكته المسبِّحة بقدسه ، و أيّه بكم أيها المؤمنون ،
فقال جل و علا عز من قائل سبحانه :
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
[الأحزاب:56] ،
و قال صلوات ربى و سلامه عليه :
(( من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا )) .
اللهم صلّ على محمد و على آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ...
اللّهمّ صلِّ و سلِّم و بارك على نبيِّنا محمَّد بن عبد الله ،
النّبيّ المصطفَى و الرسول المجتَبى و الحبيب المرتَضَى ،
و على آله و أصحابه و من سارَ على نهجِهم و اقتفى ،
يا خير من تجاوز و عفا .
اللَّهمّ أعزَّ الإسلام و المسلمين ، و أَذِلّ الشركَ و المشركين ، و دمّر أعداءَ الدين...
و الدعاء بما تحبون و من خالقكم ترجون
فأنه بنا لطيف خبير سبحانه و تعالى
أنتهت
الأخ فضيلة الشيخ / نبيل عبدالرحيم الرفاعى
أمام و خطيب مسجد التقوى - شارع التحلية - جدة
حصريــاً لبيتنا و لتجمع الجروبات الإسلامية الشقيقة
و سمح للجميع بنقله إبتغاء للأجر و الثواب
================================================== ================================
الحمد لله القويِّ الحليم ،
{ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }
[الشورى:25] .
أحمده سبحانه و أشكره ، و أتوب إليه و أستغفره ،
لا يسأل عما يفعل و هم يسألون ،
و أشهَد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له ، يُطاع فيشكُر ، و يُعصَى فيغفِر ،
{ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
[القصص:70] ،
و أشهد أنَّ سيدنا و نبينا محمّدًا عبد الله و رسولُه و صفيّه و خليله ،
تركنا على المحجَّة البيضاء ، ليلُها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالِك ،
فصلوات الله و سلامه عليه ، وعلى آلهِ الطيِّبين الطاهرين ،
و على أصحابهِ و التابعين ، و من تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أمّـــا بعـــد :
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله ، و خيرَ الهدَى هديُ سيدنا محمّد صلى الله عليه و سلم ،
و شرَّ الأمور محدثاتها ، و كلَّ محدثة بدعة ، و كلَّ بدعة ضلالة .
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله ، و أعلموا أنَّما هذه الحياة الدنيا متاع ، و أنَّ الآخرة هي دار القرار ،
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
[المائدة:100] .
أيّها الناس ، سلامة صدرِ المرء من البغضاء و خُلوّ نفسِه من نزعةِ الانتصار
للنَّفس و التشَفِّي لحظوظِها لهي سِمَة المؤمن الصالح الهيّن اللَّيِّن الذي لا غلَّ فيه
و لا حسَد ، يؤثر حقَّ الآخرين على حقِّه ، و يعلم أنَّ الحياةَ دارُ ممرٍّ و ليسَت دار مَقرٍّ ؛
إذ ما حاجةُ الدنيا في مفهومه إن لم تكُن موصِلَةً إلى الآخرة ؛
بل ما قيمةُ عيشِ المرء على هذه الأرض و هو يَكنِزُ في قلبه حبَّ الذات و الغِلظة و الفَظاظَة
و يُفرِزُ بين الحين و الآخر ما يؤكِّد من خلالِه قَسوَةَ قلبِه و ضيق صدره ؟!
ما أكثَرَ الذين يبحَثون عن مصادرِ العزِّة و سبُلها و التنقيب عنها يمنةً و يَسرةً
مهما بلَغ الجَهدُ في تحصيلها ، مع كثرَتِها و تنوُّع ضُروبها ،
غيرَ أنَّ ثمَّةَ مصدرًا عظيمًا من مصادرِ العزَّة يغفل عنه جلُّ النّاس مع سهولَتِه
و قلَّة المؤونةِ في تحصيله دون إجلابٍ عليه بخيلٍ و لا رَجلٍ ؛
إنما مفتاحُه شيءٌ من قوَّةِ الإرادة و ذمِّ النفسِ عن استِتمامِ حظوظها و أستيفاءِ كلِّ حقوقِها ،
يتمثَّل هذا المفتاحُ في تصفِيَة القلب من شواغلِ حظوظ الذّات و حبِّ الأخذ دون الإعطاءِ .
هذه العزّةُ برمَّتها يمكِن تحصيلُها في ولوجِ المرء بابَ العفو و الصَّفح و التسامح و المغفرة ،
فطِيبُ النفس و حسنُ الظنّ بالآخرين و قَبول الاعتذار و إقالةُ العثرة و كَظم الغيظ
و العفوُ عن الناس كلُّ ذلك يعَدّ من أهمِّ ما حضَّ عليه الإسلام في تعامُل المسلمين
مع بعضِهم البعض . و مَن كانت هذه صفَته فهو خليقٌ بأن يكونَ من أهل العزَّة و الرفعة ؛
لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلم قال :
(( ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ ، و ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا ،
و ما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه ))
رواه مسلم ،
و في لفظٍ لأحمد :
(( ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره )) .
فهذِه هي العِزَّة يا باغيَ العزة ، و هذه هي الرِّفعة يا من تنشُدُها .
إنها رِفعة و عِزّة في الدنيا و الآخرة ، كيف لا و قد وعد الله المتَّصفِين بها بقولِه :
{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ }
[آل عمران:133، 134] ؟!
و الكاظِمونَ الغيظَ ـ عباد الله ـ هم الذين لا يُعْمِلون غضَبَهم في الناس ،
بل يكفّون عنهم شرَّهم ، و يحتسِبون ذلك عند الله عز و جل ،
أمّا العافون عن الناس فهم الذين يعفونَ عمَّن ظلمَهم في أنفسهم ،
فلا يبقَى في أنفِسهم موجِدَة على أحدٍ . و من كانت هذه سجيَّته فليبشِر بمحبَّةِ الله له
حيث بلَغَ مقامًا من مقاماتِ الإحسان ،
{ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ }
[آل عمران:134] .
و إذا أحسن العبد أحبَّه الله ، و من أحبَّه الله غفَر له و رحمة ،
{ إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ }
[الأعراف:56] .
العفو ـ عبادَ الله ـ شِعار الصالحين الأنقِيَاء ذوِي الحِلم و الأناة و النّفس الرضيّة ؛
لأنَّ التنازلَ عن الحقِّ نوعُ إيثارٍ للآجلِ على العاجل و بسطٍ لخُلُقٍ نقيٍّ تقيٍّ
ينفُذ بقوّةٍ إلى شِغاف قلوب الآخرين ، فلا يملِكون أمامه إلا إبداءَ نظرةِ إجلالٍ
و إكبار لمن هذه صفتُه و هذا ديدَنُه .
إنَّ العفو عن الآخرين ليس بالأمرِ الهيِّن ؛
إذ له في النّفسِ ثِقلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار و الانتقامِ للنفس ،
و لا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس و رغباتها
و إن كانت حقًّا لهم يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله تعالى :
{ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ }
[الشورى:41] ،
غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ و ملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ
و خَرق العادات . و مِن هنا يأتي التميُّز عن العُموم ،
و هذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين و غيرهما
عن النبي صلى الله عليه و سلم ،
و قد أخرج الإمام أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ صلى الله عليه و سلم :
(( من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق
حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء )) .
أيّها المسلمون ، إنَّ شريعتَنا الغرّاء يوم حضَّت المسلمِين على التخلُّق
بخلقِ العفو و التجاوُز لم تقصِر ذلك في نطاقٍ ضيق أو دائرة مغلَقَة ،
بل جعلتِ الأمرَ فيه موسَّعًا ليشمَلَ جوانبَ كثيرةً من شؤونِ التّعامُل العَامّ و الخاصّ ،
فلقد جاء الحضُّ من الشارع الحكيم للقيادة الكُبرى و أهلِ الولاية العظمى بذلك ؛
لأنَّ تمثُّل القيادَةِ بسيما العفوِ و التسامُح أمارةٌ من أمارات القائدِ الناجحِ
كما أمرَ الله نبيَّه صلى الله عليه و سلم في قولِه :
{ خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ }
[الأعراف:199] ،
و كما في قوله تعالى :
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ }
[آل عمران:195] .
بل إنَّ الحضَّ على العفوِ قد تعدَّى إلى ما يخصّ تبايُع الناس و شراءَهم و مدايناتهم ،
فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم :
(( من أقال مسلمًا بيعتَه أقال الله عثرتَه ))
رواه أبو داود و ابن ماجه ،
و قال صلوات ربى و سلامه عليه و على آله و صحبه :
(( كان تاجرٌ يدايِن الناس ، فإذا رأَى معسِرًا قال لفتيانه :
تجاوَزوا عنه لعلَّ الله أن يتجاوز عنّا ، فتجاوَز الله عنه ))
رواه البخاري و مسلم .
وجاء رجل إلى النبيِّ صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ،
كم نعفو عن الخادم ؟ فصمَت ، ثم أعادَ عليه الكلام فصمَت ، فلمّا كان في الثالثة قال :
(( أعفوا عنه في كلِّ يومٍ سبعين مرة ))
رواه أبو داود والترمذي .
و بعدُ يرعاكم الله : فإنّ العفو و التجاوز لا يقتضِي الذّلَّةَ و الضعف ،
بل إنه قمَّة الشجاعة و الامتنانِ و غلَبَة الهوى ،
لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار ،
فقد بوَّب البخاريّ رحمه الله في صحيحه بابًا عن الانتصارِ من الظالم لقوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ }
[الشورى:39] ،
و ذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله :
" كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا ، فإذا قدروا عفَوا " ،
قال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما :
( لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه ) ،
و قال جعفرُ الصادِق رحمه الله :
" لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة " ،
ثم إنَّ بعض الناس ـ عباد الله ـ قد بلغ من القسوةِ ما لا يمكن معها أن يعفوَ لأحد
أو يتجاوَز عنه ، لا ترونَ في حياته إلاّ الانتقام و التشفِّي .
ترونَه و ترونَ أمثالَه كمثَل سماءٍ إذا تغيَّم لم يُرجَ صَحوُه ، و إذا قَدر لا يُنتَظَر عفوه ،
يغضِبُه الجرمُ الخفيّ ، و لا يرضيه العذرُ الجليّ ،
حتى إنّه ليرَى الذنبَ و هو أضيقُ من ظلِّ الرمح ،
و يعمَى عن العذرِ و هو أبيَنُ من وضَح النهار .
ترونَه ذا أُذنين يسمَع بإحداهما القولَ فيشتطّ و يضطرب ،
و يحجبُ عن الأخرَى العذرَ و لو كان له حجّةٌ و برهان .
و مَن هذه حالُه فهو عدوُّ عقلِه ،
و قد استولى عليه سلطان الهوَى فصرفَه عن الحسنِ بالعفوِ إلى القبيح بالتَّشفِّي ،
تقول عائشة رضي الله تعالى عنها :
{ ما ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئًا قطّ بيده ، و لا امرأة و لا خادمًا ،
إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله ، و ما نيل منه شيء قطّ فينتَقِم من صاحبه
إلاّ أن يُنتَهَك شيء من محارِم الله فينتَقِم لله عز و جل } .
رواه مسلم .
ألا إنَّ الانتصارَ للنفس من الظلمِ لحقّ ، و لكنَّ العفوَ هو الكمالُ و التّقوى ،
{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }
[الشورى:40] .
باركَ الله لي و لكم في القرآنِ العظيم ،
و نفعني و إيّاكم بما فيه من الآيات و الذّكر الحكيم ،
قد قلت ما قلت ، إن صوابًا فمن الله ، و إن خطأً فمن نفسي و الشيطان ،
و أستغفر الله إنّه كان غفّارًا .
http://us.mg4.mail.yahoo.com/ya/download?mid=1%5f66455%5fAOkNw0MAAORcTTjMFQKoEQUwm sA&pid=9&fid=adnan&inline=1
الحمد لله المحمودِ في عليائِه ، حمدًا يليق بعظمته و كبريائِه ،
أحمده تعالى و أشكره ، و أثني عليه و أستغفِره ، و أسأله المزيدَ من فضله و عطائِه ،
و أشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تبارك في صفاته و أسمائه ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمّدًا عبده و رسوله و خيرتُه من خلقه و أنبيائه ،
صلّى الله عليه و على آله و أصحابه و التابعين و مَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم لقائِه .
و بعد : فأتّقوا الله أيها المسلمون ،
و أعلَموا أنَّ حث الشريعة على العفوِ و التجاوُز لم يكن مقتصِرًا على العفو
في الظاهرِ دون الباطن ، بل إنَّه عمَّ الظاهر و الباطنَ معًا ،
فأطلق على الظاهر لفظَ العفو ، و أطلق على الباطنِ لفظ الصَّفح ،
و العفوُ و الصفح بينهما تقارُبٌ في الجملة ، إلاَّ أنَّ الصفحَ أبلغ من العفو ؛
لأنَّ الصفح تجاوزٌ عن الذنبِ بالكلية و أعتباره كأن لم يكن ،
أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاطَ اللوم الظاهر دونَ الباطن ،
و لذا أمَر الله نبيَّه صلى الله عليه و سلم به في قولِه :
{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }
[الحجر:85] ،
و هو الذي لا عتاب معه .
و قد جاءتِ الآيات متضَافِرةً في ذكرِ الصفح و الجمعِ بينه و بين العفو كما في قولِه تعالى :
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ }
[المائدة:13] ،
وقوله :
{ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }
[البقرة:109] ،
و قوله سبحانه :
{ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[التوبة:22] ،
و قوله سبحانه :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ
وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[التغابن:14] .
العفو و الصّفح ـ عباد الله ـ هما خلُقُ النبيّ صلى الله عليه و سلم ،
فأين المشمِّرون المقتَدون ؟!
أين من يغالِبهم حبُّ الانتصار و الأنتقام ؟!
أين هم من خُلُق سيِّد المرسَلين صلى الله عليه و سلم ؟!
سئِلَت أمنا أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها و عن أبيها
عن خلُق رسولِ الله صلى الله عليه و سلم فقالت :
( لم يكن فاحِشًا و لا متفحِّشًا و لا صخَّابًا في الأسواق ،
و لا يجزِي بالسيِّئة السيئة ، و لكن يعفو و يصفح ) .
رواه أحمد و الترمذي و أصله في الصحيحين .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
{وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ }
[الشورى:36، 37] .
هذا وصلّوا ـ يرحمكم الله ـ على خير البريّة و أزكى البشريّة
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم
صاحبِ الحوض و الشفاعة ، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه ،
و ثنَّى بملائكته المسبِّحة بقدسه ، و أيّه بكم أيها المؤمنون ،
فقال جل و علا عز من قائل سبحانه :
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
[الأحزاب:56] ،
و قال صلوات ربى و سلامه عليه :
(( من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا )) .
اللهم صلّ على محمد و على آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ...
اللّهمّ صلِّ و سلِّم و بارك على نبيِّنا محمَّد بن عبد الله ،
النّبيّ المصطفَى و الرسول المجتَبى و الحبيب المرتَضَى ،
و على آله و أصحابه و من سارَ على نهجِهم و اقتفى ،
يا خير من تجاوز و عفا .
اللَّهمّ أعزَّ الإسلام و المسلمين ، و أَذِلّ الشركَ و المشركين ، و دمّر أعداءَ الدين...
و الدعاء بما تحبون و من خالقكم ترجون
فأنه بنا لطيف خبير سبحانه و تعالى
أنتهت