حور العين
10-31-2016, 02:03 PM
من: الأخت / الملكة نــور
ذلك زرعك .. وهذا حصادك
يقول راوي القصة :
كنت مدرساً في حلقة تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد ،
أراه بعد المغرب في الخامسة عشرة من عمره ممسكاً بمصحف صغير يقرأ فيه ،
لا لم يكن يقرأ كان يوهمنا أنه يقرأ ، كان يختلس النظرات الينا الحين بعد الحين ،
يريد ان يعرف ماذا نفعل ، كان يسترق السمع الفنيـة بعد الاخرى ،
يريد أن يعرف ماذا نقول ، وكلما نظرت اليه غض طرفه وعاد الى قراءته
كأن لم يفعل شيئا , كان يجلس يومياً هذه الجلسة الخجولة ،
وينظر تلك النظرات الراهبة
بعد انتهاء صلاة العشاء ، عزمت على التعرف عليه
* أنا اسمي سلمان أدرّس في حلقة القرآن الكريم بالمسجد
* وأنا اسمي خالد
عجباً !! قالها بسرعة كأنه كان يحضر الاجابة ويتوقع السؤال .
* أين تدرس يا خالد ؟؟
* في السنة الثالثـة المتوسطة ، وأحب القرآن جـداً ،
إزداد إعجابي !
ما ضرورة تلك الجملة الاخير ؟
تشجعت وقلت له
خالد هل لديك فسحة في الوقت بعد المغرب ،
نأنس بوجودك معنا في حلقة القرآن الكريم .
هـاه !! القرآن ، الحلقة ، نعم ، نعم ، بكل سرور ،
سوف آتي ان شـاء الله إذن ، موعدنا غداً ان شاء الله .
أمضيت ليلتي وانا افكر في حال هذا الفتى العجيب ،
استعصى علي النوم حاولت أن اجد اجـابـة لمـا رأيت وسمعت
فما استطعت قلت في نفسي :
تبدي لك الايام ما كنت جاهلاً , ويأتيك بالاخبار من لم تزود
وضعت جنبي على شقي الايمن , لفني اللي بين أدرانه ،
وأخذني النوم في أحضانه اللهم اسلمت وجهي اليك ،
وفوضت أمري اليك
ومضت الايام ، وخالد مستمر معنا في حلقة القرآن ،
كان نشيطاً في الحفظ والمراجعة ،
أحب الجميع ، وأحبه الجميع ، كان لا يفارق المصحف ،
ولا يترك الصف الاول ، لم نكن ننكر عليه أي شيء
إلا شيئاً واحداً ؟
شروده الطويل ، وتفكيره الساهم ، فأحياناً نحس أن جسمه معنا ،
لكن روحه تمضي ، سابحة في ملكوت اخر ، غارقاً في دنيا اخرى ،
كنت افاجئه احياناً ، فلا يملك إلا أن يلملم هروبه الذهني ،
وشروده الفكري ويعتذر بعذر ، وهو يعلم أننا لا نصدقه
اخذته يوماً الى شاطئ البحر ، فلعل سره الكبير يلتقي مع هذا البحر الكبير
فيفرغ ما في نفسه من هم ، ويخرج ما في روحه من الم
وصلنا الى البحر ، ومشينا على شاطئه ، كان الوقت مساءاً ،
وكان القمر بدراً منظر عجيب ، التقى فيه سواد الماء مع سواد البحر ،
ووقف نور القمر الفضي ، حائراً بينهما كوقوفي حائراً أمام خالد
تسري خيوط القمر البيضاء الهادئة الصامته على صفحة هذا البحر الهادئ الصامت ،
ووقفت أنا أمام هذا الفتى الصامت ، المنظر كله صمت في صمت ،
فلا صوت هناك يُسمع سوى صوت الصمت
فجــأة يخترق هذا السكون الصامت ، صوت بكاء حار ، ونحيب
مــر صوت خالد وهو يبكي ، لم أشــأ أن اقطع عليه لذة البكـاء ،
وطعم الدموع فلعل ذلك يريح نفسه ، ويزيل همـه
وبعد لحظات قال
أني احبكم ، احب القرآن ، وأهل القرآن ، احب الصالحين ،
والطيبين ، ولكن ، أبي ، أبي
أبـوك ؟؟!!
وما بال أبيـك يا خـالد ؟؟
أبي يحذرني دائماً أن امشي معكم ، يخاف منكم ، يكرهكم ،
كان دائماً يبغضني فيكم ، ويستشهد على ذلك بقصص وحكايات وأساطير وروايات ،
ولكن عندما كنت أراكم في الحلقة تقرؤون القرآن ، كنت أرى النور في وجوهكم ،
النور في كلامكم بل كنت ارى النور في صمتكم كنت اشك بكلام والدي ،
فلذلك كنت دائماً أجلس بعد المغرب ، أنظر اليكم وأتخيل نفسي معكم ،
اقتبس من نوركم ، وأرشف من معينكم .
أتذكر ؟
أتذكر يا استاذ سلمان ؟؟
اتذكر عندما اتيتني بعد صلاة العشاء ؟
لقد كنت انتظرك منذ زمن بعيد ، تُمسك بروحي ، وتجعلها تحلق مع أرواحكم ،
في عالم الطهر والعفاف والنور والاستقامة ، تشجعت ، دخلت الحلقة ، اجتهدت ،
لم أكن أنام ، كانت ايامي وليالي كلها قرآن ، لاحظ ابي التغيير الذي طرأ على حياتي ،
عرف بطريقة أو باخرى ، انني دخلت التحفيظ ومشيت مع ( المطاوعة )
حتى كانت تلك الليلة السوداء ، كنا ننتظر حضوره من المقهى كعادته اليومية ،
لنتناول طعام العشاء سوياً دخل البيت ، بوجهه المظلم ، وتقاطيعه الغاضبة ،
جلسنا على سفرة الطعام ، الكل صامت كالعادة ، كلنا نهاب الكلام في حضوره ،
ثم قطع الصمت بصوته الاجش الجهوري ،
وبصراحته المعهودة
لقد سمعت أنك تمشي مع المطاوعـة ؟
أصيب مقتلي ، عُقـد لساني ، ذهب بياني ، اختلطت الكلمات في فمـي ،
لم ينتظر الاجـابـة ، تناول إبريق الشاي ، ورماه بقـوة في وجهي ،
دارت الدنيا في رأسي ، واختلطت الالوان في عيني ، وأصبحت لا أميز سقف البيت
من جدرانه ، من أرضـه ، سقـطت و حملتني امي ، صحوت من اغمائتي الخفيفة ،
على يديها الدافئة ،
وإذا بالصـوت الجهـوري يقول
اتركيه ، والا اصابك ما أصابه
استللت جسمي من بين يدي امي ، تحاملت على نفسي لاذهب الى غرفتي ،
وهو يشيعني بأبشع الشتائم ، واحط الالقاب ،
لم يكن يمر يوم إلا وهو يضربني ، ويشتمني ، ويركلني ،
يرميني بأي شيء يجده أمامه ، حتى أصبح جسمي لوحـة مرعبـة ،
اختلطت فيها الالوان الداكنـة ، كرهته ، أبغضته ، امتلأ قلبي بالحقد عليه
يومٌ من الايام ونحن على سفرة الطعام ، قال
قـم ولا تـأكل معنــا
وقبل ان اقوم ، قام هو وركلني في ظهري ركلة ،
اسقطتني على صحن الطعام
تخيـلـت انني اصـرخ في وجهـه وأقـول لـه
سوف أقتص منك ، سوف اضربك كما ضربتني ،
سوف اكبر واصبح قوياً ، وسوف تكبر وتصبح ضعيفاً ،
عندها افعل بك كما تفعل بي ، واجزيك شر ما جزيتني
ثم هربت ،، خرجت من المنزل ،، اصبحت اجري واجري على غير هدى ،
وبدون هدف ، حتى ساقتني رجلي الى هذا البحر ، الذي تغسل امواجه هموم نفسي ،
وآلام فؤادي ، وامسكت بالمصحف اقرأ فيه ، حتى اني لم استطع ان اواصل
من كثرة البكاء ، وشدة النحيب
عندها نزلت من خالد بعضاً من دموعه النقية ، التي سطعت في ضوء القمر
كما يسطع اللؤلؤ تحت ضوء المشاعل
لم انبس بكلمة واحدة ، فقد ربط العجب لساني واستعجـم بيـاني
هل اعجب من هذا الاب الوحشي الذي خلا قلبه من معاني الرحمة
وعشعشت في قلبه شتى انواع القسوة ؟
ام اعجب من هذا الابن الصابر الذي اراد الله عز وجل له الهداية ،
فألهمه الثبات ؟
ام اعجب منهما الاثنين حين استحالت رابطة الأبوة والبنوة
بينهما أشلاء ، صارت علاقتهما كعلاقة الاسد بالنمر ،
والثعلب بالذئب ؟
اخذت بيده ، مسحت دموعه بيدي ، وصبرته ودعوت له ،
ونصحته ببر والده والصبر على أذاه ، ولو حصل منه ماحصل وفعل ما فعل ،
ووعدته بأن اقابل والده واكلمه واستعطفه
مرت الايام وانا افكر في الطريقة التي افاتح بها والد خالد
في موضوع ابنه
وكيف اتكلم معه ؟
وكيف اقنعه ؟
بل كيف اعرفه على نفسي ؟
وكيف سأطرق عليه الباب ؟
واخيراً استجمعت قواي ، ولممت افكاري ،
وقررت ان تكون المواجهة ، اقصد المقابلة اليوم
الساعة الخامسة سرت الى منزل والد خالد ، وسارت معي افكار الكثيرة ،
وتساؤلاتي العديدة ، طرقت الباب ، ويدي ترتجف ، وساقي تعجز عن حملي
ثم فُتح الباب ، وإذا بذلك الوجه العابس ، وتلك التقاطيع الغاضبة ،
فابتسمت ابتسامة صفراء لعلها تمتص نظرته السوداء ،
وقبل ان اتكلم
امسك بتلابيب ثوبي ،، وشدني اليه وقال :
انت الموطـع الذي تدّرس خالداً في المسجد ؟؟،
قلت :
ن .. ع .. م
قال :
والله لو رأيتك تمشي معه مرة اخرى كسرت رجلك ،
خالد لن يأتيكم بعد الان
ثم ، جمع مـادة فمـه وقذف بها دفعـة واحـدة في وجه الفقير الى الله ،
واغلق الباب
كان ختـامهـا مسكـاً مسحت عن وجهي ما أكرمني به ، ورجعت ادراجي
وأنا اسلي نفسي واقول
رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام ، فُـعل به أكثر من هذا ، كذبه قومه شتموه ،
رموه بالحجارة ، أدموا رجله ، كسروا رباعيته ، وضعوا القاذورات فوقه ،
اخرجوه من وطنه ، وطردوه من أرضه
ومرت الايام ، تلو الايام ، والشهور تلو الشهور ، ونحن لا نرى خالداً ،
فأبوه يمنعه من الخروج حتى للصلاة ، ونحن يمنعنا من رؤيته وزيارته ،
دعونا له ونسيناه في غمرة الحياة ، ومرت السنون .
وفي ذات ليلة ، بعد صلاة العشاء ، في المسجد
إذا بيـد غليظة تمسك كتفي انها ذات اليد التي امسكت بعنقي قبل سنين ،
انه نفس الوجه ، ونفس التقاطيع ،
ونفس الفم الذي اكرمني بما لا استحق
ولكن ؟!!
هناك تغيراً كبيراً ! الوجه العابس ، أضحى منكسراً ، التقاطيع الغاضبة ،
امست ذليلة هادئة ، والجسم هدته الالام والهموم ،
والجسد أضعفته الأحزان والهموم ،
اهلا يا عم
قبلت رأسه ورحبت به ، وأخذنا زاوية في المسجد ،
انفجر باكياً !!!!!!! ،
سبحان الله ، ما كنت أظن ذلك الجبل سوف يصبح في يوم من الايام سهلاً ،
ولا ذلك البحر الهادر ،، يمسي غديراً منسابا
* تكلم يا عم واخرج ما في نفسك ،،
كيف حال خالد ؟
* خالد !!
وكأن بكلمتي هذه قد غرست في احشاءه خنجراً ،
واودعت في فؤاده سكيناً
تنهد بعمق ومضى يقول
اصبح خالد يا بني ، ليس خالداً الذي تعرفه ،
ليس خالد الفتى الطيب الهادئ الوديع ، منذ ان خرج من عندكم ،
تعرف على شلة من شلل الفساد ، فهو اجتماعي بطبعه ،
وهو في سن يحب فيها ان يخرج ويدخل ويلهو ويلعب بدأ بالدخان ، شتمته وضربته ،
لا فائدة فقد تعود جسمه على الضرب ، واستساغت اذناه الشتائم والسباب ،
كبر بسرعة ، كان يسهر معهم طويلاً ، لا يأتي إلا مع خيوط الفجر ،
طرد من المدرسة ، أصبح يأتينا في بعض الليالي وكلامه ليس ككلامه ،
ووجه لي كوجهه ، لسانٌ يهذي ، ويـدٌ ترتعش ، اصبح جسماً مهترئاً ضعيفاً ،
تغير ذلك الوجه الابيض النقي ، اصبح وجهاً اسوداً عليه غبار الخطيئة والضياع ،
وتغيرت تلك العينان الصافيتان الخجولتان ، اصبحت حمراء كالنار ،
وكأن ما يشربه او يتناوله تبدو عاقبته على عينيه في الدنيا قبل الاخرة ،
ذهب ذلك الخجل والاستحياء ، وحلت مكانه الرعونة وسؤ الادب ،
ذهب ذلك القلب الطيب البار ، واستحال قلباً قاسياً كالصخر أو أشد ،
اصبح لا يمر يوم إلا ويشتمني ، أو يركلني ، او يضربني ،
تصور يا بني ، أنا أبوه ويضربني !!!
ثم عاود البكاء الحار ، ونحيبه المر ، ثم مسح دموعه ،
ارجوك يا بني ، يا سلمان ، زوروا خالد ، خذوه معكم ،
سوف اسمح لكم ، بيتي مفتوح أمامكم ، مرّوا عليه ، انه يحبكم ،
سجلوه في حلقة تحفيظ القرآن ، خذوه معكم في رحلاتكم ،
لا مانع عندي ابداً بل انني راض ان يعيش في منازلكم ، وينام معكم ،
المهم ،، المهم ان يرجع خالد كما كان ، ارجوك يا بني اقبل يديك ،
والثم رجليك ،، ارجوك ،، ارجوك
ومضى في بكائه ونحيبه ، وحسراته ، حتى انهى ذلك كله
فقلت له
يا عم ، ذلك رزعك .. وهذا حصادك
ورغم ذلك سـوف أحاول
ذلك زرعك .. وهذا حصادك
يقول راوي القصة :
كنت مدرساً في حلقة تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد ،
أراه بعد المغرب في الخامسة عشرة من عمره ممسكاً بمصحف صغير يقرأ فيه ،
لا لم يكن يقرأ كان يوهمنا أنه يقرأ ، كان يختلس النظرات الينا الحين بعد الحين ،
يريد ان يعرف ماذا نفعل ، كان يسترق السمع الفنيـة بعد الاخرى ،
يريد أن يعرف ماذا نقول ، وكلما نظرت اليه غض طرفه وعاد الى قراءته
كأن لم يفعل شيئا , كان يجلس يومياً هذه الجلسة الخجولة ،
وينظر تلك النظرات الراهبة
بعد انتهاء صلاة العشاء ، عزمت على التعرف عليه
* أنا اسمي سلمان أدرّس في حلقة القرآن الكريم بالمسجد
* وأنا اسمي خالد
عجباً !! قالها بسرعة كأنه كان يحضر الاجابة ويتوقع السؤال .
* أين تدرس يا خالد ؟؟
* في السنة الثالثـة المتوسطة ، وأحب القرآن جـداً ،
إزداد إعجابي !
ما ضرورة تلك الجملة الاخير ؟
تشجعت وقلت له
خالد هل لديك فسحة في الوقت بعد المغرب ،
نأنس بوجودك معنا في حلقة القرآن الكريم .
هـاه !! القرآن ، الحلقة ، نعم ، نعم ، بكل سرور ،
سوف آتي ان شـاء الله إذن ، موعدنا غداً ان شاء الله .
أمضيت ليلتي وانا افكر في حال هذا الفتى العجيب ،
استعصى علي النوم حاولت أن اجد اجـابـة لمـا رأيت وسمعت
فما استطعت قلت في نفسي :
تبدي لك الايام ما كنت جاهلاً , ويأتيك بالاخبار من لم تزود
وضعت جنبي على شقي الايمن , لفني اللي بين أدرانه ،
وأخذني النوم في أحضانه اللهم اسلمت وجهي اليك ،
وفوضت أمري اليك
ومضت الايام ، وخالد مستمر معنا في حلقة القرآن ،
كان نشيطاً في الحفظ والمراجعة ،
أحب الجميع ، وأحبه الجميع ، كان لا يفارق المصحف ،
ولا يترك الصف الاول ، لم نكن ننكر عليه أي شيء
إلا شيئاً واحداً ؟
شروده الطويل ، وتفكيره الساهم ، فأحياناً نحس أن جسمه معنا ،
لكن روحه تمضي ، سابحة في ملكوت اخر ، غارقاً في دنيا اخرى ،
كنت افاجئه احياناً ، فلا يملك إلا أن يلملم هروبه الذهني ،
وشروده الفكري ويعتذر بعذر ، وهو يعلم أننا لا نصدقه
اخذته يوماً الى شاطئ البحر ، فلعل سره الكبير يلتقي مع هذا البحر الكبير
فيفرغ ما في نفسه من هم ، ويخرج ما في روحه من الم
وصلنا الى البحر ، ومشينا على شاطئه ، كان الوقت مساءاً ،
وكان القمر بدراً منظر عجيب ، التقى فيه سواد الماء مع سواد البحر ،
ووقف نور القمر الفضي ، حائراً بينهما كوقوفي حائراً أمام خالد
تسري خيوط القمر البيضاء الهادئة الصامته على صفحة هذا البحر الهادئ الصامت ،
ووقفت أنا أمام هذا الفتى الصامت ، المنظر كله صمت في صمت ،
فلا صوت هناك يُسمع سوى صوت الصمت
فجــأة يخترق هذا السكون الصامت ، صوت بكاء حار ، ونحيب
مــر صوت خالد وهو يبكي ، لم أشــأ أن اقطع عليه لذة البكـاء ،
وطعم الدموع فلعل ذلك يريح نفسه ، ويزيل همـه
وبعد لحظات قال
أني احبكم ، احب القرآن ، وأهل القرآن ، احب الصالحين ،
والطيبين ، ولكن ، أبي ، أبي
أبـوك ؟؟!!
وما بال أبيـك يا خـالد ؟؟
أبي يحذرني دائماً أن امشي معكم ، يخاف منكم ، يكرهكم ،
كان دائماً يبغضني فيكم ، ويستشهد على ذلك بقصص وحكايات وأساطير وروايات ،
ولكن عندما كنت أراكم في الحلقة تقرؤون القرآن ، كنت أرى النور في وجوهكم ،
النور في كلامكم بل كنت ارى النور في صمتكم كنت اشك بكلام والدي ،
فلذلك كنت دائماً أجلس بعد المغرب ، أنظر اليكم وأتخيل نفسي معكم ،
اقتبس من نوركم ، وأرشف من معينكم .
أتذكر ؟
أتذكر يا استاذ سلمان ؟؟
اتذكر عندما اتيتني بعد صلاة العشاء ؟
لقد كنت انتظرك منذ زمن بعيد ، تُمسك بروحي ، وتجعلها تحلق مع أرواحكم ،
في عالم الطهر والعفاف والنور والاستقامة ، تشجعت ، دخلت الحلقة ، اجتهدت ،
لم أكن أنام ، كانت ايامي وليالي كلها قرآن ، لاحظ ابي التغيير الذي طرأ على حياتي ،
عرف بطريقة أو باخرى ، انني دخلت التحفيظ ومشيت مع ( المطاوعة )
حتى كانت تلك الليلة السوداء ، كنا ننتظر حضوره من المقهى كعادته اليومية ،
لنتناول طعام العشاء سوياً دخل البيت ، بوجهه المظلم ، وتقاطيعه الغاضبة ،
جلسنا على سفرة الطعام ، الكل صامت كالعادة ، كلنا نهاب الكلام في حضوره ،
ثم قطع الصمت بصوته الاجش الجهوري ،
وبصراحته المعهودة
لقد سمعت أنك تمشي مع المطاوعـة ؟
أصيب مقتلي ، عُقـد لساني ، ذهب بياني ، اختلطت الكلمات في فمـي ،
لم ينتظر الاجـابـة ، تناول إبريق الشاي ، ورماه بقـوة في وجهي ،
دارت الدنيا في رأسي ، واختلطت الالوان في عيني ، وأصبحت لا أميز سقف البيت
من جدرانه ، من أرضـه ، سقـطت و حملتني امي ، صحوت من اغمائتي الخفيفة ،
على يديها الدافئة ،
وإذا بالصـوت الجهـوري يقول
اتركيه ، والا اصابك ما أصابه
استللت جسمي من بين يدي امي ، تحاملت على نفسي لاذهب الى غرفتي ،
وهو يشيعني بأبشع الشتائم ، واحط الالقاب ،
لم يكن يمر يوم إلا وهو يضربني ، ويشتمني ، ويركلني ،
يرميني بأي شيء يجده أمامه ، حتى أصبح جسمي لوحـة مرعبـة ،
اختلطت فيها الالوان الداكنـة ، كرهته ، أبغضته ، امتلأ قلبي بالحقد عليه
يومٌ من الايام ونحن على سفرة الطعام ، قال
قـم ولا تـأكل معنــا
وقبل ان اقوم ، قام هو وركلني في ظهري ركلة ،
اسقطتني على صحن الطعام
تخيـلـت انني اصـرخ في وجهـه وأقـول لـه
سوف أقتص منك ، سوف اضربك كما ضربتني ،
سوف اكبر واصبح قوياً ، وسوف تكبر وتصبح ضعيفاً ،
عندها افعل بك كما تفعل بي ، واجزيك شر ما جزيتني
ثم هربت ،، خرجت من المنزل ،، اصبحت اجري واجري على غير هدى ،
وبدون هدف ، حتى ساقتني رجلي الى هذا البحر ، الذي تغسل امواجه هموم نفسي ،
وآلام فؤادي ، وامسكت بالمصحف اقرأ فيه ، حتى اني لم استطع ان اواصل
من كثرة البكاء ، وشدة النحيب
عندها نزلت من خالد بعضاً من دموعه النقية ، التي سطعت في ضوء القمر
كما يسطع اللؤلؤ تحت ضوء المشاعل
لم انبس بكلمة واحدة ، فقد ربط العجب لساني واستعجـم بيـاني
هل اعجب من هذا الاب الوحشي الذي خلا قلبه من معاني الرحمة
وعشعشت في قلبه شتى انواع القسوة ؟
ام اعجب من هذا الابن الصابر الذي اراد الله عز وجل له الهداية ،
فألهمه الثبات ؟
ام اعجب منهما الاثنين حين استحالت رابطة الأبوة والبنوة
بينهما أشلاء ، صارت علاقتهما كعلاقة الاسد بالنمر ،
والثعلب بالذئب ؟
اخذت بيده ، مسحت دموعه بيدي ، وصبرته ودعوت له ،
ونصحته ببر والده والصبر على أذاه ، ولو حصل منه ماحصل وفعل ما فعل ،
ووعدته بأن اقابل والده واكلمه واستعطفه
مرت الايام وانا افكر في الطريقة التي افاتح بها والد خالد
في موضوع ابنه
وكيف اتكلم معه ؟
وكيف اقنعه ؟
بل كيف اعرفه على نفسي ؟
وكيف سأطرق عليه الباب ؟
واخيراً استجمعت قواي ، ولممت افكاري ،
وقررت ان تكون المواجهة ، اقصد المقابلة اليوم
الساعة الخامسة سرت الى منزل والد خالد ، وسارت معي افكار الكثيرة ،
وتساؤلاتي العديدة ، طرقت الباب ، ويدي ترتجف ، وساقي تعجز عن حملي
ثم فُتح الباب ، وإذا بذلك الوجه العابس ، وتلك التقاطيع الغاضبة ،
فابتسمت ابتسامة صفراء لعلها تمتص نظرته السوداء ،
وقبل ان اتكلم
امسك بتلابيب ثوبي ،، وشدني اليه وقال :
انت الموطـع الذي تدّرس خالداً في المسجد ؟؟،
قلت :
ن .. ع .. م
قال :
والله لو رأيتك تمشي معه مرة اخرى كسرت رجلك ،
خالد لن يأتيكم بعد الان
ثم ، جمع مـادة فمـه وقذف بها دفعـة واحـدة في وجه الفقير الى الله ،
واغلق الباب
كان ختـامهـا مسكـاً مسحت عن وجهي ما أكرمني به ، ورجعت ادراجي
وأنا اسلي نفسي واقول
رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام ، فُـعل به أكثر من هذا ، كذبه قومه شتموه ،
رموه بالحجارة ، أدموا رجله ، كسروا رباعيته ، وضعوا القاذورات فوقه ،
اخرجوه من وطنه ، وطردوه من أرضه
ومرت الايام ، تلو الايام ، والشهور تلو الشهور ، ونحن لا نرى خالداً ،
فأبوه يمنعه من الخروج حتى للصلاة ، ونحن يمنعنا من رؤيته وزيارته ،
دعونا له ونسيناه في غمرة الحياة ، ومرت السنون .
وفي ذات ليلة ، بعد صلاة العشاء ، في المسجد
إذا بيـد غليظة تمسك كتفي انها ذات اليد التي امسكت بعنقي قبل سنين ،
انه نفس الوجه ، ونفس التقاطيع ،
ونفس الفم الذي اكرمني بما لا استحق
ولكن ؟!!
هناك تغيراً كبيراً ! الوجه العابس ، أضحى منكسراً ، التقاطيع الغاضبة ،
امست ذليلة هادئة ، والجسم هدته الالام والهموم ،
والجسد أضعفته الأحزان والهموم ،
اهلا يا عم
قبلت رأسه ورحبت به ، وأخذنا زاوية في المسجد ،
انفجر باكياً !!!!!!! ،
سبحان الله ، ما كنت أظن ذلك الجبل سوف يصبح في يوم من الايام سهلاً ،
ولا ذلك البحر الهادر ،، يمسي غديراً منسابا
* تكلم يا عم واخرج ما في نفسك ،،
كيف حال خالد ؟
* خالد !!
وكأن بكلمتي هذه قد غرست في احشاءه خنجراً ،
واودعت في فؤاده سكيناً
تنهد بعمق ومضى يقول
اصبح خالد يا بني ، ليس خالداً الذي تعرفه ،
ليس خالد الفتى الطيب الهادئ الوديع ، منذ ان خرج من عندكم ،
تعرف على شلة من شلل الفساد ، فهو اجتماعي بطبعه ،
وهو في سن يحب فيها ان يخرج ويدخل ويلهو ويلعب بدأ بالدخان ، شتمته وضربته ،
لا فائدة فقد تعود جسمه على الضرب ، واستساغت اذناه الشتائم والسباب ،
كبر بسرعة ، كان يسهر معهم طويلاً ، لا يأتي إلا مع خيوط الفجر ،
طرد من المدرسة ، أصبح يأتينا في بعض الليالي وكلامه ليس ككلامه ،
ووجه لي كوجهه ، لسانٌ يهذي ، ويـدٌ ترتعش ، اصبح جسماً مهترئاً ضعيفاً ،
تغير ذلك الوجه الابيض النقي ، اصبح وجهاً اسوداً عليه غبار الخطيئة والضياع ،
وتغيرت تلك العينان الصافيتان الخجولتان ، اصبحت حمراء كالنار ،
وكأن ما يشربه او يتناوله تبدو عاقبته على عينيه في الدنيا قبل الاخرة ،
ذهب ذلك الخجل والاستحياء ، وحلت مكانه الرعونة وسؤ الادب ،
ذهب ذلك القلب الطيب البار ، واستحال قلباً قاسياً كالصخر أو أشد ،
اصبح لا يمر يوم إلا ويشتمني ، أو يركلني ، او يضربني ،
تصور يا بني ، أنا أبوه ويضربني !!!
ثم عاود البكاء الحار ، ونحيبه المر ، ثم مسح دموعه ،
ارجوك يا بني ، يا سلمان ، زوروا خالد ، خذوه معكم ،
سوف اسمح لكم ، بيتي مفتوح أمامكم ، مرّوا عليه ، انه يحبكم ،
سجلوه في حلقة تحفيظ القرآن ، خذوه معكم في رحلاتكم ،
لا مانع عندي ابداً بل انني راض ان يعيش في منازلكم ، وينام معكم ،
المهم ،، المهم ان يرجع خالد كما كان ، ارجوك يا بني اقبل يديك ،
والثم رجليك ،، ارجوك ،، ارجوك
ومضى في بكائه ونحيبه ، وحسراته ، حتى انهى ذلك كله
فقلت له
يا عم ، ذلك رزعك .. وهذا حصادك
ورغم ذلك سـوف أحاول