المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدارج السالكين ( الجزء العاشر )


حور العين
01-04-2017, 01:55 PM
من: الأخت الزميلة / جِنان الورد
مدارج السالكين
( الجزء العاشر )


نبدأ باْذن الله الحلقة العاشره
من مدارج السالكين بين منازل

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

نسخة منقحة
للإمام العلامة : إبن القيم الجوزية

الدرس العاشر
حقائق التوبة وعلامة قبولها

يراد بالحقائق : ما يتحقق به الشيء وتتبين به صحته وثبوته .
تعظيم الجناية :
فإنه إذا استهان بها " المعصية " لم يندم عليها وعلى قدر تعظيمها
يكون ندمه على ارتكابها

وتعظيم الجناية يصدر عن ثلاثة أشياء :
* تعظيم الأمر
* وتعظيم الآمر
* والتصديق بالجزاء

اتهام التوبة :
فلأنها حق عليه لا يتيقن أنه أدى هذا الحق على الوجه المطلوب منه
الذي ينبغي له أن يؤديه عليه , فيخاف أنه ما وفاها حقها وأنها لم ُتقبل منه ،
وأنه لم يبذل جهده في صحتها ، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة
خوفا من الله وتعظيما له ولحرماته وإجلالا له وخشية من البعد والطرد عنه
والحجاب عن رؤية وجهه في الدار الآخرة فهذه التوبة لون وتوبة
أصحاب العلل لون.

ومن اتهام التوبة :
طمأنينته ووثوقه من نفسه بأنه قد تاب ، حتى كأنه قد أعطي منشورا بالأمان
فهذا من علامات التُهمة

ومن علاماتها :
جمود العين واستمرار الغفلة وأن لا يستحدث بعد التوبة أعمالا صالحة
لم تكن له قبل الخطيئة.

فالتوبة المقبولة الصحيحة لها علامات.
●● منها : أن يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبلها

●● ومنها : أنه لا يزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين ،
فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه :

{ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }

فهناك يزول الخوف.

●● ومنها : انخلاع قلبه وتقطعه ندما وخوفا

وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى :

{ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ }
قال: تقطعها بالتوبة ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة
يوجب انصداع القلب وانخلاعه وهذا هو تقطعه وهذا حقيقة التوبة ،
لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه وخوفا من سوء عاقبته ,
فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفا تقطع في الآخرة
إذا حقت الحقائق وعاين (شاهد) ثواب المطيعين وعقاب العاصين ،
فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة.

●● ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضا : كسرة خاصة تحصل للقلب
لا يشبهها شيء ولا تكون لغير المذنب , تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة
قد أحاطت به من جميع جهاته ، وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه
في رضاه عنه ، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته , هذا مع حبه لسيده
وشدة حاجته إليه وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده وذله وعز سيده.

فيجتمع من هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع ما أنفعها للعبد وما أجدى عائدتها عليه!
وما أعظم جبره بها وما أقربه بها من سيده! فليس شيء أحب إلى سيده
من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه
والاستسلام له
فلله ما أحلى قوله في هذه الحال :
أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني
أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة
بين يديك عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك
لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك
أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير
سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذل لك قلبه
يا من ألوذ به فيما أؤمـــله ** ومن أعوذ به مما أحــاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ** ولا يهيضون عظما أنت جابره

فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها
فما أصعب التوبة الصحيحة ، وما أسهلها باللسان والدعوى!
وما عالج (كابد) الصادق بشيء أشق عليه من التوبة الخالصة الصادقة
ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات ، في كبائر مثلها
أو أعظم منها أو دونها ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها فعندهم
من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم

(بتصرف) وتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم تورثهم عزا بأنفسهم وكبراً
ما هو أبغض إلى الله وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك ،
فإن تدارك الله أحدهم بكبيرة يوقعه فيها ليكسر بها نفسه
ويذله بها فهي رحمة في حقه ، كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح
فهو رحمة في حقهم وإلا فكلاهما على خطر.

ولا بد يكمل للعبد مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه ،
فإن النفس فيها مضاهاة (عدم انقياد) للربوبية ، ولو قدرت لقالت كقول فرعون
ولكنه قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر

وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية وهو أربع مراتب :

المرتبة الأولى : مشتركة بين الخلق :
وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله فأهل السماوات والأرض جميعا محتاجون إليه
فقراء إليه وهو وحده الغني عنهم وكل أهل السماوات والأرض
يسألونه وهو لا يسأل أحدا.

المرتبة الثانية : ذل الطاعة والعبودية :
وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية.

المرتبة الثالثة : ذل المحبة :
فإن المُحب ذليل بالذات وعلى قدر محبته له يكون ذله
فالمحبة أسست على الذلة للمحبوب

المرتبة الرابعة : ذل المعصية والجناية :
فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل لله والخضوع له
أكمل وأتم إذ يذل له خوفا وخشية ومحبة وإنابة وطاعة وفقرا وفاقة.
وهو لب العبودية وسرها وحصوله أنفع شيء للعبد وأحب شيء إلى الله


وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

( لله أفرح بتوبة عبده- حين يتوب إليه- من أحدكم كان على راحلة
بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها
فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك
إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال- من شدة الفرح-
اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح )
هذا لفظ مسلم.

فهذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه
وفضله وشرفه وخلقه لنفسه وخلق كل شيء له وخصه من معرفته ومحبته
وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره وسخر له ما في سماواته وأرضه
وما بينهما حتى ملائكته- الذين هم أهل قربه- استخدمهم له وجعلهم حفظة له
في منامه ويقظته وظعنه (السفر) وإقامته وأنزل إليه وعليه كتبه
وأرسله وأرسل إليه فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات .

والمؤمن من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق وخيرة الله من العالمين
وفضّله بما لم تنله أمنيته ولم يخطر على باله من المواهب والعطايا
الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تنال إلا بمحبته
ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه
فاتخذه محبوبا له وأعد له أفضل ما يعده محب غني قادر جواد لمحبوبه

فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي؟
ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما يأخذه ولله المثل الأعلى
إذ هذا شأن الجواد من الخلق
فالعفو أحب إليه من الانتقام والرحمة أحب إليه من العقوبة
والفضل أحب إليه من العدل والعطاء أحب إليه من المنع.

فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته
لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه .. وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام
فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان
والبر وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه
فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيا لسيده
منهمكا في موافقة عدوه إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه
وجوده وكرمه وعلم أنه لا بد له منه ، وأن مصيره إليه وعرضه عليه
وأنه إن لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه على أسوأ الأحوال ففر إلى سيده
من بلد عدوه وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه فوضع خده على عتبة
بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللا متضرعا خاشعا باكيا آسفا يتملق سيده
ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه قد ألقى بيده إليه واستسلم له
وأعطاه قياده وألقى إليه زمامه ,

فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ومكان الشدة عليه
رحمة به ، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده
ما هو أهله وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا
فكيف يكون فرح سيده به ؟

وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعا واختيارا وراجع ما يحبه سيده منه
وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده
من طريق الغضب والانتقام والعقوبة ؟

وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق
من سيده فرأى في بعض السكك بابا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث
ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت
فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكرا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه
ولا من يئويه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينا فوجد الباب مرتجا
فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام

فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه
والتزمته تقبله وتبكي وتقول :
يا ولدي أين تذهب عني ؟ ومن يئويك سواي ؟
ألم أقل لك : لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي
على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك ؟

ثم أخذته ودخلت , فتأمل قول الأم :
لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة.

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم

( لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها )

وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟

فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح
هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها.

فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع
والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

إلي اللقاء مع الجزء الحادي عشر بإذن الله تعالي