المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدارج السالكين ( الجزء الحادي عشر )


حور العين
01-05-2017, 12:59 PM
من:الأخت الزميلة / جِنان الورد
مدارج السالكين
( الجزء الحادي عشر )


نبدأ باْذن الله الحلقة الحادي عشر
من مدارج السالكين بين منازل

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

نسخة منقحة
للإمام العلامة : إبن القيم الجوزية

الدرس الحادي عشر
فصل : منزلة الإنابة


معنى الإنابة والدليل عليها :

قد علمت أن من نزل من منزل التوبة وقام في مقامها نزل في جميع
منازل الإسلام , فإذا استقرت قدمه في منزل التوبة نزل بعده منزل الإنابة
وقد أمر الله تعالى بها في كتابه وأثنى على خليله بها :

فقال :

{ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ }

وقال :

{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ }


وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة

فقال :

{ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا }

إلى أن قال :

{ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ }

وقال تعالى :

{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا
وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ }


وقال تعالى :

{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ }

أي أقم وجهك أيها الرسول أنت وأمتك منيبين إليه


وقال عن نبيه داود

{ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ }

وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة

فقال :

{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ }


وأخبر سبحانه أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة فقال :

{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا
وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ }


والإنابة إنابتان :
1 - إنابة لربوبيته
2 - إنابة لإلهيته

1 - إنابة لربوبيته :
وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر

قال الله تعالى :

{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ }

فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع

وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر
كما قال تعالى في حق هؤلاء :


{ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ *
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ }

فهذا حالهم بعد إنابتهم.

2 - إنابة لإلهيته
والإنابة الثانية إنابة أوليائه وهي إنابة لإلهيته إنابة عبودية ومحبة.
وهي تتضمن أربعة أمور:
** محبته
**والخضوع له
**والإقبال عليه
**والإعراض عما سواه

فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع
وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك.


* وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع والتقدم والمنيب إلى الله
المسرع إلى مرضاته , الراجع إليه كل وقت , المتقدم إلى محابه ,
الإنابة في اللغة الرجوع وهي هاهنا الرجوع إلى الحق.


ولما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته ،
كان من تتمة ذلك رجوعه إليه بالاجتهاد والنصح في طاعته
كما قال :

{ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا }

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا }


فلا تنفع توبة وبطالة فلا بد من توبة وعمل صالح ،
ترك لما يكره وفعل لما يحب , وكذلك الرجوع إليه بالوفاء بعهده ،
فرجعت إليه بالدخول تحت عهده , والدين كله عهد ووفاء ,
ومدح الموفين بعهده وأخبر بما لهم عنده من الأجر

فقال :
{ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }


وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطاعة
وعهودهم مع الخلق , والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة.

أي هو سبحانه قد دعاك فأجبته بلبيك وسعديك قولا فلا بد من الإجابة
حالا تصدق به المقال فإن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها وكل قول فلصدقه
وكذبه شاهد من حال قائله فكما رجعت إلى الله إجابة بالمقال
فارجع إليه إجابة بالحال

قال الحسن :
ابن آدم ؟ لك قول وعمل وعملك أولى بك من قولك
ولك سريرة وعلانية وسريرتك أملك بك من علانيتك.


فصل : الرجوع إلى الله :

ويستقيم الرجوع إليه إصلاحا بثلاثة أشياء :

أحدهما : أن يتوجع لعثرته إذا عثر فيتوجع قلبه وينصدع
وهذا دليل على إنابته إلى الله بخلاف من لا يتألم قلبه ولا ينصدع من عثرته
فإنه دليل على فساد قلبه وموته.


الثاني : أن يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر حتى كأنه هو الذي عثر بها
ولا يشمت به فهو دليل على رقة قلبه وإنابته.


الثالث : واستدراك الفائتات من طاعة وقربة في بقية عمره
وعند قرب رحيله إلى الله فبقية عمر المؤمن, يستدرك بها ما فات
ويحيي بها ما أمات.

فصل : علامات الإنابة :

ومن علامات الإنابة ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم
مع فتحك باب الرجاء لنفسك فترجو لنفسك الرحمة وتخشى على أهل الغفلة
النقمة ، ولكن ارج لهم الرحمة واخش على نفسك النقمة ،
فإن كنت لا بد مستهينا بهم ماقتا لهم لانكشاف أحوالهم لك ورؤية
ما هم عليه فكن لنفسك أشد مقتا منك لهم وكن أرجى لهم
لرحمة الله منك لنفسك.

قال بعض السلف :
لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله
ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتا.

وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله فإن من شهد حقيقة الخلق
وعجزهم وتقصيرهم بل تفريطهم وإضاعتهم لحق الله وإقبالهم على غيره
وبيعهم حظهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني
لم يجد بدا من مقتهم ولا يمكنه غير ذلك البتة ،
ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره وكان على بصيرة من ذلك
كان لنفسه أشد مقتا واستهانة فهذا هو الفقيه.

فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال
أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه؟

وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر البتة وهو غير خالص لله
ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا وهو خالص لوجه الله
ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها.


* فبين العمل وبين القلب مسافة وفي تلك المسافة قطاع
تمنع وصول العمل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه
إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة
ولا نور يفرق به بين الحق والباطل فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه
لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل

* ثم بين القلب وبين الرب مسافة وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه
سبحانه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة
وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب

ومن رحمة الله تعالى سترها على أكثر العمال إذ لو رأوها وعاينوها
لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل


فصل: ما يستقيم به الرجوع إلى الله حالا :

وإنما يستقيم الرجوع إليه حالا بثلاثة أشياء :


أولاً : الإياس من العمل :
يفسر بشيئين :
أحدهما : أنه لولا مشيئته (سبحانه) لما كان منك فعل فمشيئته
أوجبت فعلك لا مشيئتك

والثاني : أن تيأس من النجاة بعملك وترى النجاة
إنما هي برحمته تعالى

كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال

( لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟
قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل )


فالمعنى الأول يتعلق ببداية الفعل والثاني بغايته ومآله


ثانياً : معاينة الاضطرار طريق الرجوع إلى الله :

فإنه إذا أيس من عمله بداية وأيس من النجاة به نهاية شهد به
في كل ذرة منه ضرورة تامة إليه وليست ضرورته من هذه الجهة وحدها
بل من جميع الجهات بل هو مضطر إليه كما أن الله عز وجل غني ،
فإن الغنى وصف ذاتي للرب والفقر والحاجة والضرورة وصف ذاتي للعبد.


ثالثا : معرفة لطفه بك
فإنه إذا تحقق له ضرورة وأيس من عمله والنجاة به
نظر إلى ألطاف الله وعلم أن كل ما هو فيه وما يرجوه وما تقدم له ،
لطف من الله به ومنة مَنّ بها عليه ، وصدقة تصدق بها عليه بلا سبب منه،
إذ هو المحسن بالسبب ، والمُسبب ، والأمر له من قبل ومن بعد ،
وهو الأول والآخر لا إله غيره ولا رب سواه.

إلي اللقاء مع الجزء الثاني عشر بإذن الله تعالي