المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : للفراسة رجالها


حور العين
01-26-2017, 02:22 PM
من:الأخ / رضا ريحان
للفراسة رجالها

لا تكون الفراسة إلا بتفريغ القلب من هَمّ الدنيا ، وتطهيره من أدناس
المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول المباحات ، وعندها يجري على مرآة
القلب كل حق لا خيال ، لأنه تقلب بين آيات الحق وأنوار الطاعات فانهالت
عليه الفيوضات والإشراقات ،

ومثل ذلك قول ابن عباس رضي الله عنه :
ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه.

وما رُوِي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة
ورجل على باب المسجد فقال أحدهما :
أراه نجارا ، وقال الآخر : بل حدادا ، فتبادر من حضر
إلى الرجل فسأله فقال : كنت نجارا وأنا اليوم حداد!!

ورُوي عن جندب بن عبد الله البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن
فوقف فقال :
من سمَّع سمَّع الله به ومن راءى راءى الله به ، فقلنا له : كأنك عرَّضت
بهذا الرجل ، فقال : إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا ؛
فكان رأس الحرورية واسمه مرداس.

ورُوِي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال :
هذا سيد فتيان البصرة إن لم يُحدِث ، فكان من أمره من القدَر ما كان حتى
هجره عامة إخوانه.

وقال لأيوب :
هذا سيد فتيان أهل البصرة ولم يستثن.

ورُوِى عن الشعبي أنه قال لداود الأزدي وهو يماريه :
إنك لا تموت حتى تُكوى في رأسك وكان كذلك.

ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه قوم
من مذحج فيهم الأشتر فصعَّد فيه النظر وصوَّبه وقال :
أيهم هذا؟ قالوا : مالك بن الحارث فقال : ما له قاتله الله!
إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا ، فكان منه في الفتنة ما كان.

ورُوِي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه :
أن أنس بن مالك دخل عليه وكان قد مر بالسوق ، فنظر إلى امرأة
فلما نظر إليه قال عثمان : يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر الزني!
فقال له أنس : أوحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال :
لا ! ولكن برهان وفراسة ، وصدق ، ومثله كثير من الصحابة
والتابعين رضي الله عنهم أجمعين .

من ألوان الفراسة
التفاعل مع الأحداث اليومية : صاحب القلب الحي إذا رأى ظلمة حسبها
ظلمة القبر ، وإذا وجد لذة ذكر نعيم الجنة ، وإذا صرخ من ألم خاف
عذاب النار ، وإذا شمَّ شواء ذكر جهنم ، وإذا رأى ضاحكا على معصية
رقَّ لحاله في الآخرة ، وإذا رأى مطيعا على فاقة استبشر
بنعيمه في الجنة.

كان عمر بن عبد العزيز من أرباب القلوب الحية وكان واقفا مع سليمان
بن عبد الملك ، فسمع سليمان صوت الرعد فجزع ووضع صدره
على مقدمة الرحل ، فقال عمر وهو المعتبر المتدبر بكل ما حوله :
هذا صوت رحمته فكيف إذا سمعت صوت عذابه؟!

ومثله الحسن البصري الذي روى عنه سلام :
" أُتي الحسن بكوز من ماء ليفطر عليه ، فلما أدناه إلى فيه بكى ؛
وقال : ذكرت أمنية أهل النار؛ قولهم :

{ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ }
[ الأعراف : 50 ]

، وذكرت ما أُجيبوا :

{ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ }
[ الأعراف : من الآية50) " .

إن حياة القلب تمنح العين حياة فوق الحياة وبصيرة فوق البصر ،
فإذا هي مثل عين أبي الفرج بن الجوزي الذي أبصر وتبصَّر
فقال حاكيا إحدى تأملاته التي لا يدركها إلا من كان مثله :

" رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلي ما عثر به فينظر
إليه طبعا موضوعا في الخلق ، إما ليحذر منه أن جاز عليه مرة أخرى
أو لينظر - مع احترازه وفهمه - كيف فاته التحرز من مثل هذا ، فأخذت
من ذلك إشارة وقلت : يا من عثر مرارا .. هلا أبصرت ما الذي عثَّرك
فاحترزت من مثله ، أو قبَّحت لنفسك -مع حزمها- تلك الواقعة " .

قراءة الرسائل الربانية : وصاحب القلب الحي إذا وفّقه الله لطاعة
سأل نفسه : بأي عمل صالح أثابني الله بهذه الطاعة؟ أبدعوة إلى خير أم
بصلاة ليل أم بسعي في حاجة مسلم أم بعفو عن مسيء أم بإنظار معسر؟!
فيراجع شريط ذكرياته ليُكرِّر صالح أعماله فينعم بنفس الثواب مرات
كثيرة ، وقد جعل الله ثمارا عديدة تربو على الخمسين لمن حرس ثغور
قلبه من عدوه ، ولم يُدخِل منها سوى الحسنات الموالية للقلب والعاملة
على مصلحته ومنفعته ، لكن قضى الله أن لا يتذوق لذة هذه الثمرات
إلا من زكى قلبه وسمت روحه ،

ولذا قال ابن القيم وهو يحاول أن يقنعك
بجدوى هذه الحراسة وفاعلية ترك الذنوب :
" لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة ،
وصون العرض ، وحفظ الجاه ، وصيانة المال الذي جعله الله قِواما
لمصالح الدنيا والآخرة ، ومحبة الخلق ، وجواز القول بينهم ،
وصلاح المعاش ، وراحة البدن ، وقوة القلب ، وطيب النفس ،
ونعيم القلب ، وانشراح الصدر ، والأمن من مخاوف الفُساق والفجار ،
وقلة الهم والغم والحزن ، وعز النفس عن احتمال الذل ، وصون نور
القلب أن تطفئه ظلمة المعصية ، وحصول المخرج له مما ضاق
على الفساق والفجار ، وتيسير عليه الرزق من حيث لا يحتسب ،
وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي ، وتسهيل الطاعات عليه
، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس ، وكثرة الدعاء له ، والحلاوة
التي يكتسبها وجهه ، والمهابة التي تُلقى له في قلوب الناس ،
وانتصارهم وحميتهم له اذا أوذي وظُلِم ، وذبِّهم عن عرضه إذا اغتابه
مغتاب ، وسرعة إجابة دعائه ، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله ،
وقُرب الملائكة منه ، وبُعد شياطين الإنس والجن منه ، وتنافس الناس
على خدمته وقضاء حوائجه ، وخطبتهم لمودته وصحبته ، وعدم خوفه
من الموت ، بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه ،
وصِغَر الدنيا في قلبه ، وكِبَر الآخرة عنده ، وحرصه على الملك الكبير
والفوز العظيم فيها ، وذوق حلاوة الطاعة ، ووجد حلاوة الايمان ،
ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له ، وفرح الكاتبين به
ودعاؤهم له كل وقت ، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته ،
وحصول محبة الله له ، وإقباله عليه ، وفرحه بتوبته ، وهكذا يجازيه
بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه " .

لكن .. تُرى هل يلمح هذه المكافآت أحد غير أحياء القلوب؟!
وهل يقوم بشكرها غير من يتمتَّعون بالرقة الإيمانية والحساسية النورانية
والفطرة التي لم تتدنس بعد؟

ومن أحياء القلوب هؤلاء وأرباب المشاعر الرقيقة هذه :
يحيى بن معاذ الذي لمح ذلك بما حباه الله من بصيرة إيمانية ثاقبة فقال :
" إن العبد على قدر حبه لمولاه يُحبِّبه إلى خلقه ، وعلى قدر توقيره
لأمره يُوَقِّره خلقه ، وعلى قدر التشاغل منه بأمره يشغل به خلقه ،
وعلى قدر سكون قلبه على وعده يطيب له عيشه ، وعلى قدر إدامته
لطاعته يُحلِّيها في صدره ، وعلى قدره لهجه بذكره يديم ألطاف بره ،
وعلى قدر استيحاشه من خلقه يؤنسه بعطائه ، فلو لم يكن لابن آدم
الثواب على عمله إلا ما عُجِّل له في دنياه لكان كثيرا " .

العقوبات إشارات
وفي المقابل إذا حُرِم القلب الحي من طاعة بادر على الفور بالسؤال :
بأي معصية حُرِمت وبأي خطيئة مُنِعت؟ أبكلمة غيبة؟ أبنظرة محرَّمة؟
أبعقوق والدة؟! أبسماع فحش؟! يسأل نفسه خاصة بعد أن ارتجف خوفا
واضطرب وجلا واقتنع بسلامة تحليل ابن القيم الذي انتهى إلى
( أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك
الجرائم ، فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلامه ورده عليه ، وجعل عقوبة
الغالِّ من الغنيمة لمّا قصد تكثير ماله بالغلول : حرمانه سهمه وإحراق
متاعه ، وجعل عقوبة من اصطاد فى الحرم أو الإحرام : تحريم أكل
ما صاده وتغريمه نظيره ، وجعل عقوبة من استكبر عن عبوديته
وطاعته : أن صيَّره عبدا لأهل عبوديته وطاعته ، وجعل عقوبة من أخاف
السبيل وقطع الطريق : أن تُقطع أطرافه وتُقطع عليه الطرق كلها بالنفي
من الأرض ؛ فلا يسير فيها إلا خائفاً ، وجعل عقوبة من التذ بدنه كله
وروحه بالوطء الحرام : إيلام بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل الألم
إلى حيث وصلت اللذة ، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة
من اطلع في بيت غيره : أن تقلع عينه بعود ونحوه ؛ إفسادًا للعضو الذى
خانه ، وأولجه بيته بغير إذنه ، وعاقب من حرص على الولاية والإمارة
والقضاء بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه ، ولهذا عاقب أبا البشر
آدم عليه السلام بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالأكل من الشجرة ليخلد
فيها ، فكانت عقوبته إخراجه منها ضد ما أمَّله ، وعاقب الناس إذا بخسوا
الكيل والميزان بجور السلطان عليهم ؛ يأخذ من أموالهم أضعاف
ما يبخس به بعضهم بعضا ، وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها
لأموالهم بحبس الغيث عنهم ، فيمحق بذلك أموالهم ، ويستوى غنيهم
وفقيرهم في الحاجة ، وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسنّة نبيه
صلى الله عليه وسلم وطلبوا الهدى من غيره : بأن يضلهم ويسد عليهم
أبواب الهدى ، وهذا باب واسع جدا عظيم النفع لمن تدبَّره يجده متضمنا
لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته ، بأن يعكس عليه مقصوده
شرعاً وقدراً دنيا وآخره ) .