المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : 79 - خطبتى الجمعة بعنوان ( عــزة المــؤمــن )


vip_vip
08-14-2011, 05:46 PM
79 - خطبتى الجمعة بعنوان
( عــزة المــؤمــن )
الحمد لله الكبير المتعال ، رب السماوات و الأرض و ما فيهن و العليم بكل حال ،
أحمده سبحانه و تعالى و أشكره ، و أتوب إليه و أستغفره ،
تفرد بالعظمة و الكبرياء ، و توحد بالعز و البقاء .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما نقضه و أبرمه ،
و أشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله و رسوله ،
اجتباه ربه فأكرمه ، و اصطفاه فكرّمه ، أعزه على الخلائق و من شرهم عصمه .
صلى الله و سلم و بارك عليه ، و على آله الطيبين الطاهرين ، و صحابته الغر الميامين ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أمــا بــعــد :
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ و نفسي بتقوى الله عز و جل ، فاتقوا الله رحمكم الله ،
فمن اتقى ربه فاز و سعد ، و نال يوم الجزاء جميل ما وُعد ، أخلصوا لربكم في العبادة و الطاعة ،
و الزموا الجمعة و الجماعة ، و بادروا بالأعمار صالح الأعمال ،
و أعدوا العدّة ليوم لا بيع فيه و لا خلال ، اعتبروا بما طوت الأيام من صحائف السالفين ،
و اتعظوا بما أذهبت المنايا من أماني المسرفين .
أيها المسلمون : الكبرياء على العباد صفة رب العباد ٬ الذى خلق فسوى ٬ و الذى قدر فهدى ٬
و الذى إذا ظهر قهر ٬ و إذا تجلى طاشت لأنوار جلاله ألباب البشر :
}فلله الحمد رب السماوات و رب الأرض رب العالمين
٬ و له الكبرياء في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم } .
و ذلة العباد لربهم ذلة بالحق لا بالباطل. فالخلق و الأمر ، و الغنى و الملك له وحده.
و مصاير العباد رهن مشيئته و طوع إرادته. و هم إنما يكونون فى أزكى أحوالهم
ساعة تعنو جباهُهُم لرب العزة فى السجود الخاضع الطويل.
عندئذ يعرفون وضعهم و يلزمون حدهم ٬ و يعطون الخالق الكبير حقه الذى لا مرية فيه.
و لا عدوان فى تقريره.
أما ذلة العبد لعبد مثله فباطل لا ريب فيه . و المتكبر منهما متطاول مبطل ،
يزعم لنفسه ما ليس لها ، و الوضيع المستعبد جاهل بقدره ٬ تحمّل من الأوزار ما لا يطيق .
عباد الله : لقد حرم الإسلام الذل و أوجب العزة ، حرم على المسلم أن يهون ٬
أو يستذل ٬ أو يستضعف ٬ و رمى فى قلبه القلق و التبرم بكل وضع يخدش كرامته و يجرح مكانته .
رُوى عن أنس بن مالك رضى الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
( من أصبح حزينا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه .
و من أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يشكو الله تعالى .
و من تضعضع لغنى لينال مما فى يديه أسخط الله ٬
و من أُعطى القرآن فدخل النار ٬ فأبعده الله ) .
و فى رواية
( من جلس إلى غنى فتضعضع له ٬ لدنيا تصيبه ٬
ذهب ثلثا دينه ٬ و دخل النار . (
و هذا الحديث يستنكر الضراعة التى تظهر على بعض الناس حين تمر بهم الأزمات ٬
فيبكون ما فقدوا من حطام ٬و يصيحون بالخلق طالبين النجدة ٬
و يتمرغون فى تراب الأغنياء انتظار عرض يفرضونه لهم ، أو يقرضونه إياهم .
إن التألم من الحرمان ليس ضعة ٬ و لكن تحول الحرمان إلى هوان هو الذى يستنكره الإسلام.
فقد مضت سنة الرجولة من قديم الزمن أن يتحامل الجريح على نفسه حتى يشفى
فيستأنف المسير بعزم ٬ لا أن يخور ٬ ثم يتحول إلى كسيح ٬ ثم ينتظر الحاملين.
و فى الحديث عنه صلى الله عليه و سلم
( من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا ) .
إن اعتزاز المسلم بنفسه و دينه و ربه هو كبرياء إيمانه ٬ و كبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان ٬
إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان ٬ أو يتضع فى مكان ٬ أو يكون ذنبا لإنسان.
هى كبرياء فيها من التمرد بقدر ما فيها من الاستكانة ٬ و فيها من التعالى بقدر ما فيها من التضامن:
فيها الترفع على مغريات الأرض ، و مزاعم الناس و أباطيل الحياة
٬ و فيها الانخفاض إلى خدمة المسلمين و التبسط معهم ٬ و احترام حقوقهم
٬ فيها إتيان البيوت من أبوابها ٬ و طلب العظمة من أصدق سبلها.
{ من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه
و الذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد و مكر أولئك هو يبور } .
العزة و الإباء و الكرامة ، من أبرز الخلال التى نادى بها الإسلام ٬ و غرسها فى أنحاء المجتمع ،
و تعهد نماءها بما شرع من عقائد و سنّ من تعاليم
و تأملوا رحمكم الله ، تأملوا في نداء المؤذن خمس مرات كل يوم مناديا بتكبير الله وحده
فى بداية الأذان و نهايته ؟ علام يفعل ذلك ؟
و لماذا يتكرر هذا التكبير فيكتنف حركات الصلاة كلها من قيام و قعود ؟
ذلك لكي يوقن المسلم يقينا لا يهتز و لا يزيغ ٬ أن كل متكبر بعد الله فهو صغير ٬
و إن كل متعاظم بعد الله فهو حقير ٬ و كأنما و كل إلى هذا النداء أن يرد الناس إلى الصواب
كلما أطاشتهم الدنيا ٬ و ضللتهم متاهاتها الطامسة .
و توكيدا لهذه المعانى اختار الله عزّ و جل إسمى العظيم و الأعلى من أسمائه الحسنى
ليكررها المسلم فى أثناء ركوعه و سجوده
٬ فتشربُ روحُه إفرادَ رب العالمين بالعظمة و العلو..

إخوة الإيمان : العزة حق يقابله واجب ٬ و ليس يسوغ لامرئ أن يطالب بما له من حق ،
حتى يؤدى ما عليه من واجب ٬ فإذا كلفت بعمل فأديته على أصح وجوهه فلا سبيل لأحد عليك ٬
و لا يستطيع من فوقك و لا من دونك مرتبةً ، أن يعرض لك بلفظ محرج ٬
أو ينفذ إليك باللوم و التقريع . إن ألد أعدائك حينئذ يتهيبك .
يقول الله تعالى :
{ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون *
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم
كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
إن ارتكاب الآثام سبيل السقوط و الإهانة ٬ و مزلقة إلى خزى الفرد و الجماعة .
و قد بين الله أن الهزيمة فى غزوة أحد كان سببها ما ارتكبه البعض من مخالفات .
{ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا
ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } .
و الإسلام عندما أوصى المسلم بالعزة هداه إلى أسبابها ٬ و يسر له وسائلها ٬
و أفهمه أن الكرامة فى التقوى ٬ و أن السمو فى العبادة ٬ و أن العزة فى طاعة الله ،
و المؤمن الذى يعلم ذلك و يعمل به ،
يجب أن يأخذ نصيبه كاملا غير منقوص فى الحياة الرفيعة المجيدة.
فإذا اعتدى عليه أحد ، أو طمع فيه باغ ، كان انتصابه للدفاع عن نفسه جهادا فى سبيل الله.
و موته دون حقه شهادة في سبيل الله : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : يا رسول الله ٬ أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى ؟
قال صلى الله عليه و سلم:
لا تعطه مالك
قال : أرأيت إن قاتلنى ؟
قال : قاتله!
قال : أرأيت إن قتلنى؟
قال : فأنت شهيد!
قال أرأيت إن قتلته ؟
قال: هو فى النار.

نعم: ( إن من عزة المؤمن ألا يكون مستباحا لكل طامع ٬ أو غرضا لكل هاجم.
بل عليه أن يستميت دون نفسه و عرضه. و ماله و أهله. و إن أريقت فى ذلك دماء )
فإن هذا رخيص لصيانة الشرف الرفيع . و إنما شرع الله الثأر من المظالم ٬
إعزازا لجانب المظلوم و إضعافاً لجانب العادى فعلق المسلم بحقوقه و ملأ بها يديه ٬
و أغراه أن يتشبث بها فلا ينزل عنها إلا عفوا كريما ٬ أو سماحة تزيده عزا على عز . .
.
أيها الإخوة الأحبة : و لما كان فى النفس الإنسانية شىء من الضعف أو القلق ٬
ربما حملها على الخنوع لمن يملك الفصل فى أمورها و قضاء مطالبها ٬
و ربما انزلق بها إلى مواقف تجافى الكرامة ٬
لذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نستكين فى هذه الأمور
و أن تبقى جباهنا عالية و نحن نسعى إلى ما نبغى
فقال عليه الصلاة و السلام
) اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجرى بالمقادير(

أيها المؤمنون : البشر و لو اجتمعوا بأسرهم أذل من أن يمنعوا شيئا أعطاه الله ٬
و أقل من أن يعطوا شيئا منعه الله ، و على المسلم أن يرد مصاير الأمور إلى مدبرها الأعظم.
و أن يجعل فيه الثقة و عليه المعول . و ليكبر دينه فلا يذل به ٬
و ليملك نفسه فلا يعطى فرصة لأحمق كي يستعلى عليه و يستكبر ٬
فإن أمراً لن يتم إلا إذا أمضاه الله
{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها
وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم }
إن مظهر السلطة الذى يمنحه الله طائفة من العباد لا يغير قيد شعرة من إرادة القاهر فوق العباد .
و حينما يخالجنا الشعور بالعجز و الغلبة على أمرنا ،
فلنتيقن أن هذا الإحساس و الشعور منتف
فى حق الله الذى لا يُعجزه شيء في الأرض و لا في السماء
{ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .

إن الأدنى إلى الحق ٬ و الأقرب إلى النفع ٬ و الأرشد فى علاج المشاكل
أن يظل المسلم منتصب القامة مرتفع الهامة ٬ لا تدنيه حاجة و لا تطويه شدة
يجأر إلى مولاه بالدعاء و يكشف انكساره لربه وحده ٬ فلا يبدى صفحته لمخلوق ٬
فاقهاً قول الله له
{ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله
يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم } .
بارك الله لي و لكم في الوَحيين ، و نفعني و إيّاكم بهدي سيِّد الثقلين ،
أقول قولي هذا ، و أستغفر الله العظيم الجليل لي و لكم و لسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ ،
فاستغفروه و توبوا إليه ؛ سبحانه إنه كان توّابًا رحيما .
الحمد لله المتوحد بالعظمة و الجلال ، المتصف بصفات الكمال ،
أحمده سبحانه و أشكره شكراً يزيد النعم و يحميها من الزوال .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله أنقذ الأمة من الضلال ،
و هدى بإذن ربه إلى أشرف الخصال ،
صلى الله و سلم و بارك عليه ، و على آله و أصحابه خير صحب و آل ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أمــا بــعــد :
فاتقوا الله عباد الله ، و اعلموا أن الناس يذلون أنفسهم ٬ و يقبلون الدنية فى دينهم و دنياهم ٬
لواحد من أمرين: إما أن يصابوا فى أرزاقهم ٬ أو فى آجالهم.
و الغريب أن الله قطع سلطان البشر على الآجال و الأرزاق جميعا ٬
فليس لأحد إليهما من سبيل: فالناس فى الحقيقة يستذلهم الحرص على الحياة و الخوف على القوت.
فهم من خوف الذل فى ذل ٬ و من خوف الفقر فى فقر.
{ أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور *
أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور }
يقول ابن القيم فى مناجاة الله : يا من ألوذ به فيما أؤمله ! و من أعوذ به مما أحاذره !
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره و لا يُهيضون عظما أنت جابره !
ذلكم هو التوحيد الكامل. و ذلكم ما يجب أن يُستشفى به أولئك الضعاف المساكين ٬
الذين يريقون ماء وجوههم فى التسكع على الأبواب ٬ و التمسح بالثياب ٬ و الزلفى على الأعتاب .
يقول صلى الله عليه و سلم :
{ إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله } .
و عن ابن مسعود أن رسول الله قال
{ ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلى أمرتكم به ٬
ولا عمل يقرب إلى النار إلى وقد نهيتكم عنه ٬
فلا يستبطئن أحد منكم رزقه .
فإن جبريل ألقى فى روعى أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه .
فاتقوا الله أيها الناس و أجملوا فى الطلب .
فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله ؛ فإن الله لا ينال فضله بمعصيته }
ثم صلوا و سلموا على الرحمة المهداة و النعمة المسداة ؛
نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز قائلاً عليماً :
{ إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً }
[الأحزاب:56].
اللهم صلِّ و سلم و بارك على عبدك و رسولك محمد
و على آله الطيبين الطاهرين و على أزواجه أمهات المؤمنين
و ارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين : أبي بكر و عمر و عثمان و علي ،
و عن الصحابة أجمعين و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
و عنَّا معهم بعفوك و إحسانك و جودك يا أكرم الأكرمين .
و قال عليه الصلاة و السلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه :
( مَن صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا ) .
فاجز اللّهمّ عنّا نبيّنا محمّدًا صلى الله عليه و سلم خيرَ الجزاء و أوفاه ،
و أكمله و أسناه ، و أتمَّه و أبهاه ، و صلِّ عليه صلاةً تكون له رِضاءً ،
و لحقِّه أداءً ، و لفضلِه كِفاء ، و لعظمته لِقاء ،
يا خيرَ مسؤول و أكرمَ مأمول يا رب الأرض و السماء .
اللّهمّ إنّا نسألك حبَّك ، و حبَّ رسولك محمّد صلى الله عليه و سلم ،
و حبَّ العملِ الذي يقرّبنا إلى حبّك .
اللهم اجعل حبَّك و حبَّ رسولك صلى الله عليه و سلم أحبَّ إلينا
من أنفسنا و والدينا و الناس أجمعين .
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام و المسلمين ، و أذلَّ الشركَ و المشركين ،
و أحمِ حوزةَ الدّين ، و أدِم علينا الأمن و الأمان و أحفظ لنا ولاة امورنا ،
و رد كيد كل من أراد فتنة فى بلادنا فى نحره أو فى أى من بلاد المسلمين
اللهم أمنا فى أوطاننا و أصلح أئمتنا و ولاة أمورنا ،
و أنصر عبادَك المؤمنين ...
ثم الدعاء بما ترغبون و ترجون من فضل الله العلى العظيم الكريم
أنتهت