المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف يعيش المعاق؟ (4)


حور العين
10-26-2018, 09:52 AM
من الإبنة / إسراء المنياوى

http://www.ataaalkhayer.com/up/download.php?img=9642

كيف يعيش المعاق؟ (4)


كما فقَد الإمامُ الترمذي بصرَه في آخر عمره، مثلما فقده ترجمانُ
القرآن عبدُالله بن عبَّاس - رضي الله عنهما - في آخِرِ عمره وأنشَد:

إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا
فَفِي لِسَانِي وَسَمْعِي مِنْهُمَا نُورُ
قَلْبٌ ذَكِيٌّ وَعَقْلٌ غَيْرُ ذِي خَطَلٍ
وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ‏

أمَّا أمير المدينة أَبَان بن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنهما
- فقدْ كان مُصابًا بالصَّمم، قال محمَّد بن سعد: كان ثِقةً،
وكان به صَممٌ ووضح كثير، وأصابَه الفالِجُ قبلَ أن يموت ،
والفالِج شللٌ يُصيب أحدَ شقِّي الجسم طولاً، وكذلك كان الأديبُ الكبير
مصطفى صادق الرافعي مصابًا ببعض الصَّمَم، وكان يُكتَب له ما يُراد مخاطبتُه به.

أمَّا النبيُّ موسى - عليه السلام - فقد كان أشهرَ العظماء الذين
عانَوْا مِن صعوبات في النُّطق، وقد أُصيب الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف
- رضي الله عنه - يومَ أُحُدٍ فسقطتْ ثناياه فهُتِم، وأثَّر ذلك في نُطقه،
كما جُرِح عشرين جراحةً بعضُها في رِجله فعرج - رضي الله عنه وأرضاه.

أمَّا الصحابيُّ الجليل عمرو بن الجموح - رضي لله عنه -
فقدْ كان شيخًا كبيرًا، وكان أعرج؛ قال الواقدي: لم يشهَدْ بدرًا، كان أعرجَ
، ولمَّا خرَجوا يومَ أُحد منَعَه بنوه، وقالوا: عَذَرَكَ الله، فأتى رسولَ الله يشكوهم، فقال:
( لا عليكم ألاَّ تمنعوه؛ لعلَّ الله يرزقه الشهادة )،
قالتِ امرأته هندٌ أختُ عبدالله بن عمرو بن حرام: كأنِّي أنظُر إليه قد
أخَذَ دَرقتَه وهو يقول: اللهمَّ لا ترُدَّني، فقُتِل هو وابنه خلاَّد .

وكذا كان الإمامُ شيخ الإسلام عطاء بن أبي ربَاح مفتي الحرَم - أعورَ،
أشلَّ، أفطسَ، أعرجَ، أسودَ!

كما كان الأميرُ الكبير موسى بن نُصَير متولِّي إقليم المغرب،
وفاتح الأندلس - أعرَجَ هو الآخَر.

ثم مَن قال: إنَّ المعاق لا يستطيع أن يُحِبَّ ويُعبِّر عن حبِّه ؟! لعلَّكِ لم
تقرئي روائعَ الرافعي التي أخرجَها للمكتبة العربية جرَّاءَ حبه الكبير
للأديبة مي زِيادة، أما الشاعر الضرير بشَّار بن بُرْد فقدْ عشِق امرأةً
يقال لها: عبدة ، وفيها يقول:

يُزَهِّدُنِي فِي حُبِّ عَبْدَةَ مَعْشَرٌ
قُلُوبُهُمُ فِيهَا مُخَالِفَةٌ قَلْبِي
فَقُلْتُ دَعُوا قَلْبِي بِمَا اخْتَارَ وَارْتَضَى
فَبِالْقَلْبِ لاَ بِالْعَيْنِ يُبْصِرُ ذُو اللُّبِّ
وَمَا تُبْصِرُ الْعَيْنَانِ فِي مَوْضِعِ الهَوَى
وَلاَ تَسْمَعُ الأُذْنَانِ إِلاَّ مِنَ الْقَلْبِ
وَمَا الحُسْنُ إِلاَّ كُلُّ حُسْنٍ دَعَا الصِّبَا
وَأَلَّفَ بَيْنَ الْعِشْقِ وَالعَاشِقِ الصَّبِّ

والمعاق ليس محبًّا وحسْبُ، بل ومحبوبًا أيضًا، فقد أحبَّ الشاعر العباسيُّ
بهاء الدين زهير - ويقال غيره - امرأةً عمياء،
قال فيها هذه الأبيات الرقيقة:

قَالُوا تَعَشَّقْتَهَا عَمْيَاءَ قُلْتُ لَهُمْ
مَا شَانَهَا ذَاكَ فِي عَيْنِي وَلاَ قَدَحَا
بَلْ زَادَ وَجْدِيَ فِيهَا أَنَّهَا أَبَدًا
لاَ تُبْصِرُ الشَّيْبَ فِي فَوْدِي إِذَا وَضَحَا
إِنْ يَجرَحِ السَّيْفُ مَسْلُولاً فَلاَ عَجَبٌ
وَإِنَّمَا عَجَبِي مِنْ مُغْمَدٍ جَرَحَا
كَأَنَّمَا هِيَ بُسْتَانٌ خَلَوْتُ بِهِ
وَنَامَ نَاظِرُهُ سَكْرَانَ قَدْ طَفَحَا
تَفَتَّحَ الْوَرْدُ فِيهِ مِنْ كَمَائِمِهِ
وَالنَّرْجِسُ الْغَضُّ فِيهِ بَعْدُ مَا انْفَتَحَا

وامتدَح الشاعر ابن تميم التلجلج في لِسان محبوبته قائلاً:

عَابُوا التَّلَجْلُجَ فِي لِسَانِ مُعَذِّبِي
فَأَجَبْتُهُمْ لِلصَّبِّ فِيهِ بَيَانُ
إِنَّ الَّذِي يُنْشِي الحَدِيثَ لِسَانُهُ
وَلِسَانُهُ مِنْ رِيقِهِ سَكْرَانُ

أمَّا الحُدود التي تَتكلَّمين عنها فوَحْدَكِ مَن يصنعُها، تمامًا كما يفعل الكثيرون،
سواء كانوا أصحَّاءَ أم مرْضى، ولُغة اليأس التي تَتكلَّمين بها هي لُغتكِ وحْدَكِ،
وليستْ لُغةَ المعاقين جميعهم، فهُم أناس أعْرِفهم عن قُرْب،
وأعرِف شكلَ الألَم الذي يعانون منه، وأنفاس الأمَل التي يَعيشون بها.

إنَّ لكلِّ إنسان طاقاتٍ وقدراتٍ يَعرِفها من نفسه، معاقًا كان أمْ غيرَ معاق، والله يقول:
{ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا }
[البقرة: 233]،
وكما أنَّ قدراتِ الصغير تختلف عن قدراتِ الكبير، وقُدرات الصحيح
تَختلف عن قُدراتِ المريض، وقُدرات المرأة تختلف عن قُدراتِ الرجل،
وقُدرات النحيلِ تختلف عن قُدراتِ المفتول العضلات، كذلك تختلف قُدراتُ المعاقِ
عن غيره؛ لأنَّ هناك فوارقَ فرديةً بيْن البشَر، وليس لأنَّه معاق؛
{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا }
[البقرة: 286].

وقدْ أعْذَر الله - سبحانه وتعالى - هذه الشريحةَ مِن المجتمع في بعضِ الأحكام؛ فقال - تعالى -:
{ لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ }
[النساء: 95]،
وقال:
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ }
[الفتح: 17]؛
أي: ليس عليهم حرَجٌ في ترْك الجهاد، فلِمَ الحرج إذًا؟!

في الحقيقة، لستُ أنا مَن يخبركِ بحدودِ قُدراتكِ، فهذه قُدراتكِ أنتِ،
وأنتِ مَن عليه أن يُخبرني بذلك، أمَّا أنا فلا أعلَمُ إلا قُدراتِ نفسي وإمكاناتي،
وطاقاتي وحدودي، وقُدراتي الآن تتوقَّف عندَ حدودِ هذه الأسطر.

لستُ أملك في الختام إلا الدعاءَ لكلِّ أحبَّتي المعاقين مِن ذوي الحاجات الخاصَّة،
فوق كلِّ أرْض، وتحتَ كلِّ سماء، بأن يَشفيَهم الله - تعالى - شفاءً تامًّا
لا يُغادر سقمًا، وأن يرفعَ عنهم البلاء، وينزل عليهم الصَّبر، ويُقدِّر
لهم الخيرَ حيث كان، ثم يُرضِّيهم به، وأن يُفرِغَ عليهم حمدَه تعالى على
كلِّ حال، ويُسعِد قلوبهم الطاهِرة في كلِّ الأحوال، ولا يجعل لهم حاجةً

عندَ أحد مِن العالمين، اللهمَّ آمين.

لقدْ كتبتِ استشارتَكِ بكلماتٍ عامَّة، وأجبتُكِ عنها بكلمات عامَّة،
متأمِّلة أن تكتبي لنا في المرَّةِ القادِمة مُشكلتَكِ الحقيقية،
التي تخصُّكِ وحدَكِ، ودفَعتْكِ لكتابةِ هذه الاستشارة.

هَذَا الْغَرَامُ عَلَى ضَمِيرِكَ شَاهِدٌ
عَدْلٌ فَماذَا يَنْفَعُ الْكِتْمَانُ

دمتِ بألف خير.

تمت ولله الحمد - منقول للفائدة