المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صيد الخاطر لابن الجوزي - الانقطاع إلى الله


vip_vip
03-09-2012, 07:35 AM
صيد الخاطر لابن الجوزي - الانقطاع إلى الله








كنت في بداية الصبوة ،
قد ألهمت سلوك طريف الزهاد ،
بإدامة الصوم و الصلاة .

و حببت إلي الخلوة فكنت أجد قلباً طيباً .
و كانت عين بصيرتي قوية الحدة ،
تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة ،
و تبادر الوقتفي اغتنام الطاعات .
و لى نوع أنس ، و حلاوة مناجاة ! !

فانتهى الأمرإلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي ،
فأمالني إليه ، فمال الطبع ، ففقدت تلك الحلاوة .
ثم استمالني آخر ، فكنت أتقي مخالطته و مطاعمه ،
لخوف الشبهات ،و كانت حالتي قريبة .
ثم جاء التأويل فانبسطت فيما يباح
فعدم ما كنت أجد من استنارة و سكينة .
و صارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله .
فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس ،
فيتوبون و يصلحون ، وأخرج مفلساً فيما بيني و بين حالي .

و كثر ضجيجي من مرضي ، و عجزت عن طب نفسي ،
فلجأت إلى قبور الصالحين ، و توسلت في صلاحي ،
فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهة مني ،
ورد قلبي علي بعد نفور مني ، وأراني عيب ما كنت أوثره .

فأفقت من مرض غفلتي ! و قلت في مناجاة خلوتي :
سيدي كيف أقدر على شكرك ؟ وبأي لسان أنطق بمدحك ؟
إذ لم تؤاخذني على غفلتي ، و نبهتني من رقدتي ،
و أصلحت حالي على كره من طبعي .
فما أربحني فيما سلب مني إذ كانت ثمرته اللجأ إليك !
و ما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي على الخلوة بك .

و ما أغناني إذأفقرتني إليك ، و ما آنسني إذ أوحشتني من خلقك .
آه على زمان ضاع في غيرخدمتك ! أسفاً لوقت مضى في غير طاعتك .
قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لايؤلمني نومي طول الليل .
و إذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم .
و ما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض .

فالآن قد هبت نسائم العافية ،
فأحسست بالألم فستدللت على الصحة .
فيا عظيم الإنعام تمم لي العافية .
آه من سكير لم يعلم قدر عربدته إلا في و قت الإفاقة ؟
لقد فتقت ما يصعب رتقه ، فواأسفاً على بضاعة ضاعت ،
و على ملاح تعب في موج الشمال مصاعداً مدة ،
ثم غلبه النومفرد إلى مكانه الأول .
يا من يقرأ تحذيري من التخطيط فإني
ـ و إن كنت خنتنفسي بالفعل ـ
نصيح لإخوتي بالقول احذروا إخواني
من الترخص فيما لا يؤمن فساده .
فإن الشيطان يزين ، في أول مرتبة ،
ثم يجر إلي النجاح ، فتلمحوا المآل، و افهموا الحال .
و ربما أراكم الغاية الصالحة ،
و كان في الطريق إليه انوع مخالفة ،
فيكفي الإعتبار في تلك الحال ،
بأبيكم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى.

إنما تأمل آدم الغاية و هي الخلد ، ولكنه غلط في الطريق ،
و هذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء .
يتأولون لقوالب المصالح ، فيستعجلون ضرر المفاسد .
مثاله أن يقول للعالم : ادخل على هذا الظالم فاشفع في مظلوم ،
فيستعجل الداخل رؤية المنكرات ، و يتزلزل دينه .
وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم .
فمن لم يثقبدينه فليحذر من المصائد ، فإنها خفية .
و أسلم ما للجان العزلة ، خصوصاً فيزمان قد مات فيه المعروف ،
و عاش المنكر ، و لم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة .
فمن داخلهم دخل معهم فيما لا يجوز ،
و لم يقدر على جذبهم مما هم فيه .
ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات
يراهم منسلخين من نفعالعلم قد صاروا كالشرطة .
فليس إلا العزلة عن الخلق ،
و الإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة .
و لأن أنفع نفسي وحدي ، خير لي من أن أنفع غيري و أتضرر.
فالحذر الحذر من خوادع التأويلات ، و فواسد الفتاوى ،
و الصبر الصبر على ماتوجبه العزلة .
فإنه إن انفردت بمولاك فتح لك باب معرفته . فهان كل صعب ،
و طاب كلمر ، و تيسر كل عسر و حصلت كل مطلوب .

و الله الموفق بفضله ، و لا حول و لاقوة إلا به .