تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : درس اليوم 5173


حور العين
05-04-2021, 05:24 PM
من:إدارة بيت عطاء الخير

http://www.ataaalkhayer.com/up/download.php?img=9641

درس اليوم

صيامُ السَّمع

أطلَّ الإنسان على هذه الحياة وعلى كَتَده جرابُ أمانات استُودِعها؛ ليحفظها،
ويقوم بحقوقها، فإن نثرها متخففًا منها؛ هرعًا إلى شهواته ثقلَ عليه
الحساب، وخسر عند السؤال يوم المآب.

ومن تلك الأمانات: أمانة السمع، قال تعالى:

{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }
[الإسراء: 36].

لقد أعطى الله الإنسان هبةَ السمع إنعامًا عليه؛ لتكون وسيلة إلى تحصيل
العلوم، واستنارة الفهوم، قال تعالى:
{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
[النحل: 78].

يمشي الإنسان في أحضان هذه الحياة، ويتقلب بين أكنافها فتتوارد إلى سمعه
أصوات مختلفة يهتز ببعضها، وينقبض من أخرى، فيسمع الأصوات
المحبوبة فيصغي إليها، ويلتذ بسماعها، فينعم باله، وينشرح قلبه،
وتنبسط نفسه.

وتصل إلى سمعه الأصوات المكروهة فيمجها، ويعرض عنها،
ويتخذ الموقف المناسب إزاءها.

فيسمع آيات القرآن الكريم – ولا سيما إذا كانت بصوت عذب - تتحدر على
أذنيه تحدّرَ الجمان فيجد لتلك الحروف الندية نغمة رائعة تتسلسل بها الحياة
إلى القلب فيطرب لها فرحًا، فينشط إلى تلبية نداء تلك الحروف الهادية:

{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ
وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ }
[الزمر: 18].

ولسماع القرآن العظيم تأثير عظيم على النفوس؛ ولهذا كان الكفار يصفونه
بالسحر؛ لقوة انجذاب السامعين إليه، حتى كانوا يتواصون بعدم سماعه،
قال تعالى:

{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }
[فصلت: 26]،
فكم أسلم في القديم والحديث من الناس لسماع آيات هذا الكتاب العظيم.

وبهذه النعمة - نعمة السمع - تصل إلى الإنسان أحكام الدين، فيعرف الحلال
فيتبعه، ويعلم الحرام فيجتنبه، وبه يتلذذ بوصول كلام والديه وأولاده
ومن يحب.

وبهذه النعمة ينصرف إلى هذا الكتاب المفتوح - الكون - فيسمع تسبيحه
في حفيف أشجاره، وتغريد أطياره، وخرير أنهاره، وانهلال أمطاره، وهزيز
رياحه، وهزيم رعوده، ويسمع ناطق الكون وصامته، على اختلاف لغاته،
وتعدد نغماته. فيقول:
فيَا عَجَبَاً كيفَ يُعصى الإلهُ
أمْ كيفَ يجحدهُ الجاحِدُ!
وللهِ فِي كلِّ تحرِيكَةٍ
وفي كلّ تَسكينَةٍ شاهِدُ
وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ
تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ
فما أعظم نعمة السمع التي يتقلب الإنسان في نعيمها
وقد لا يشعر بعظمها، إلا إذا ضعُفت أو فُقِدت!.

بيد أن هناك سامعين لم يعرفوا قدر هذه الأمانة؛ فأعرضوا عن أداء حقها،
فسخروها في سماع الباطل، وتتبع السوء: من جنوحٍ محبٍّ إلى استماع
الانحرافات العقدية، والاعوجاجات الأخلاقية؛ بغية تشرّبها، ومن انصراف
إلى استماع لهوٍ يدعو إلى الرذيلة، ويشغل عن الفضيلة، ومن ميل إلى
متابعة أصوات النساء؛ تلذذاً بها، كما قال بشار الأعمى:
يا قومِ أذْنِي لِبْعضِ الحيِّ عاشقةٌ
والأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْيانا
فقلتُ أحسنتِ أنتِ الشمسُ طالعةٌ
أَضرمتِ في القلب والأَحشاءِ نِيرانا
فأسمعينيَ صوتاً مطرباً هزجاً
يزيد صبًّا محبّاً فيكِ أشجانا

وكما قالت أعرابية:
وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ
ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ
ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى
وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ

ومتى ما وصلت تلك الأصوات النابية إلى آذان واعية زرعتها في القلب
المريض فأشرِب حبَّها، فأينع نباتها على الجوارح ثمراتٍ مرّة
من الأعمال والأقوال السيئة.

إن رمضان إذا أشرق نجمُه في النفوس شعشعَ فيها أنوارَ المعرفة لنعم الله
تعالى، فسخر العبد الموفق ما وهبه الله منها في مرضاته، فيلتفت إلى سمعه
ليشاركه في الصوم، فيهدي إليه الأصوات النافعة، ويحول بينه وبين سماع
الأصوات المضرة، فإذا جاءت أصوات الحق كان " أَسْمَع مِنْ سِمْعٍ" لها،
وإن وردت أصوات الباطل أعرض عنها، كما قال تعالى:

{ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا
وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ }
[القصص: 55].

ففي هذا الشهر الكريم يزين سمعه ويصغيه إلى سماع القرآن وقلبُه حاضر؛
ليثمر ذلك السماع الجامع لأركان الفائدة التدبرَ والخشية وزيادة الإيمان،
والإقبال على العمل الصالح، قال تعالى:

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }
[الأنفال: 2]،

وقال:

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }
[ق: 37].
ويحليه بسماع الموعظة، وكلماتِ النور التي تهديه إلى الصراط المستقيم.

ويحليه بسماع الأخبار والعلوم الطيبة التي تزيده من الله تعالى قربة، وفي
الحياة معرفة، فإذا ورد سمعَه الغثُ والسمين من المسموعات وأراد تفريغ ما
سمع في آذان الناس انتقى من ذلك الصوابَ فحدّث به، ودفن مسموع الباطل
في طي النسيان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع) .

ولا يحدث بعد إلا بما يتأكد من سماعه؛ خشية أن يخطئ في الحديث؛ بسبب
خطأ وصول المعلومات إلى أذنيه، كما قالت العرب:
" أَسَاءَ سَمْعاً فأَساءَ جَابَةً" .

ويجعل بينه وبين سماع ما يجرح الصوم، ويصيب الديانة في مقتل، خندقًا
من ورع وإعراض، كاستماع الحروف المظلمة التي تدعو إلى انحراف القلب
والفكر عن الجادة المستقيمة، وكاستماع الغيبة والنميمة، والفحش والبذاء
، والطعن في الأعراض، والكذب والبهتان، والغناء والخنا،
والدعوة إلى الرذيلة.

قال مسكين الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت
حتى يواري جارتي الخِدرُ
ويُصمّ عما كان بينهما
سمعي وما بي غيرُه وقر

وقال معن بن أوس:
لعمرك ما أهويتُ كفّي لريبةٍ
ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
ولا دلّني رأيي عليها ولا عقلي

وقال الآخر:
توخَّ من الطُّرق أوساطها
وعَدِّ عن الجانبِ المشتبَه
وسمعَكَ صُنْ عن سماع القبي
ح كصون اللّسان عن اللّفظ به
فإنَّكَ عند استماع القبيح
شريك لقائله فانتبه




أسأل الله لي و لكم الثبات اللهم صلِّ و سلم و زِد و بارك
على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين

ر