المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : درس اليوم ( 13 – 20 )


حور العين
06-21-2023, 08:49 AM
من:إدارة بيت عطاء الخير
http://www.ataaalkhayer.com/up/download.php?img=9641

درس اليوم

ميلاد جديد

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

(مَن حجَّ لله فلم يرفُث ولم يَفسُق، رجع كيوم ولَدتْه أُمُّه).



رجع كيوم ولَدته أمُّه؛ أي: بغير ذنبٍ، وظاهره

غفران الصغائر والكبائر والتَّبعات.



رجع كأنه وُلِد من جديد.



أيُّ شيء هو الحج؟ فما الحج؟!

وأيُّ عبادةٍ هي الحج لتعود من بعده بميلاد جديد؟!



أي عظمة في تلك الشعيرة لتجعل مَن تلبَّسها إنسانًا جديدًا؟!



كيف يكتسب النقاء والطهر وقد كان قبل ذلك ملطَّخًا بالأقذاء والأدران؟



رحلة قصيرة مدتُها أيام تجعل من صاحبها نورًا يشعُّ وطهرًا يتألَّق،

وصفاءً يتلألأ.



رحلة قصيرة ولكنها شاقَّة، فالحج سفرٌ والسفر قطعةٌ من العذاب، وفي الحج

ترك للأوطان، وهجرٌ للأولاد وبذل الأموال، وفي الحج تركٌ لكثير من

المباحات والمحبوبات إلى النفس، وذلك كله يحتاج إلى يقينٍ صادق بالله

عز وجل، وتحمُّل نفسي كبير، وتجلُّد شديد، ومجاهدة للنفس، والمسلم

الحاج يفعل كل ذلك وكلُّه سعادةٌ وشوق لإتمام الفريضة على الوجه الأكمل؛

ليعود بعدَها سعيدًا يتطلَّع إلى كامل الأجر والثواب.



مَن حجَّ ولم يرفُث ولم يفسُق، رجع كيوم ولَدتْه أمُّه.



وكيف كان يوم ولَدته أمُّه؟



يعود نقيًّا أنقى من الثوب المطهر بالماء والثلج والبرَد، يعود جميلَ المظهر

كجمال الجمال، يُنبتُ في قلبه الطهرَ والصفاءَ، كما تُنبت الأرضُ النبات

والزرعَ بعد أن ينزلَ عليها الغيثُ، والقلب كالأرض الميتة الهامدة

يحتاج في كلِّ حين إلى غيثٍ وسُقيا.



سُقيا الأرض: الماء ينزل من السماء، فتَحيا به الأرض، وتُنبت من كلِّ زوج

بهيجٍ، وسقيا القلب الرحمة والمغفرة تنزلُ عليه من ربِّ السماء

فيَحيا من جديد:

﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾

[الحديد: 17].



إذا كان الغيثُ يغيثُ الأرض فتَهتز وتُنبت، فالحج مثل الغيث

ينزلُ إلى القلب فيَغسله من جميع أدرانه؛ ليُصبح قلبًا طاهرًا سليمًا.



يأتي الحاج مُتعبَ القلب ثقيلًا مِن حَمْلِ الذنوب، هامدَ الرُّوح، مُشتتَ الفكر،

راكدَ المزاج، ضيِّق الصَّدر، فإذا به يَخرج مِن حَجته تلك، وقد غُسِلت عنه

كلُّ الأدران، وحُمِلت عنه كلُّ التعبات، وأُزِيْحَتْ عن قلبه كلُّ الهموم

والأحزان، وتغيَّر مزاجُه أُنسًا وصفاءً، وانقشَعتْ مِن فكره الوساوسُ

والخَطرات، ورُفِعت عن صدره صخورُ الأوزار والضِّيق والزَّفرات!



فلا تسَل عن قلبه كيف صفا، ولا عن عقله كيف أشرَق وأضاءَ،

ولا عن مزاجه كيف شذا وهمى، ولا عن رُوحه كيف حلَّقت

في عَنان السماء!



ميلادان:

لا يولد المرءُ مرتين إنما يولَد مرةً واحدة،

ولكنه يولَد ولادة رُوحٍ مرات ومرات ...



الميلاد الأول ليس باختياره، بينما ميلاد الروح باختياره؛ حيث يختار

في حَجه أنه حجَّ بلا رفثٍ ولا فسوق ولا جدال، فقد اختار لنفسه

ميلادًا جديدًا.



وليس كل مَن حَجَّ وُلِدَ من جديدٍ، وعاد مِن حجِّه كيوم ولَدتْه أُمُّه، ليس كلُّ

مَن تلبَّس بلباس الحاج وتوشَّح بالبياض، عاد بقلبٍ أبيضَ مثل الصفا، ليس

كلُّ مَن لبَّى: (لبَّيك اللهمَّ لبَّيك)، ناداه المنادي: لبَّيك وسَعديك، ليس كلُّ

مَن شَعِثَ رأسُه، واغْبَرَّ وجهَه، واتَّسخ ثوبُه، لُبِّيتْ له دعوتُه!



مخاض قبل الميلاد:

متى وكيف تكون التهيئة للميلاد الجديد؟

مَن اختار لنفسه سبيلَ الحج المبرور عاد بميلاد جديد.



ليس أمرًا سهلًا أن يعودَ الحاج كيوم ولَدته أمُّه، بل دون ذلك صبرٌ ومصابرة،

ومجاهدةٌ للنفس بترك كل محبوب أمَر الله بتركه أثناء حجِّه، وفِعل كلِّ مكروهٍ

وشاقٍّ على النفس أمَر الله بفعله أثناء حجه



ما علامات ومؤشرات الميلاد الجديد؟

الميلاد الجديد يشمل أحوال الحاج في عبادته لله، حين يتخفَّف

الإنسان من أثقال الذنوب المتراكمة، وأغلال المعاصي المتلاحقة.



الميلاد الجديد يعني (محبة الله، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه،

والطُّمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف، والرجاء والتوكل والمعاملة؛

بحيث يكون هو وحدَه المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته،

وهو جنة الدنيا؟ والنعيم الذي لا يُشبهه نعيمٌ، وهو قُرةُ عينِ المحبين

وحياة العارفين)؛ ابن القيم رحمه الله.



الميلاد الجديد علامته الإقبالُ على الله تعالى، والإنابة إليه والرضا به ومنه،

وامتلاءُ القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته.



الميلاد الجديد يعني الانطلاق بنظرةٍ أعمقَ للوجود، وتصوُّرٍ جديد للحياة

بما يوافق متطلبات الخلافة في هذه الأرض، كما حددها الخالق

سبحانه وتعالى.



ومن علامات الميلاد الجديد الرجوعُ بعد الحج بعزيمة كبيرة، وهِمة عالية

لتهذيب النفس، وتطوير الذات وتغيير الواقع، ومُدافعة هذا الميلاد

الجديد للحاج يؤثِّر فيمَن حوله مِن الناس، ومَن في مُحيطه من كائنات

وبيئة وجمادات.



تخيَّل أنك وُلِدتَ من جديد، وأن صفحتك بيضاءُ نقيَّةٌ،

كيف ستُخطط للحياة الجديدة؟ ما أهدافك فيها؟



ما رسالتك التي تحمِلُها؟ ميلاد جديد لعلاقتك مع الله،

مع الناس، مع الخلق، كيف يكون ذلك؟

ميلاد جديد للروح وللقلب والعقل والمشاعر والعواطف والسلوك.

ولِدتَ مِن جديد بصفحةٍ نقيَّةٍ بيضاءَ، فكيف ستُحافظ على هذا النقاء

وهذا الصفاء؟

أيها الحاج لك الخيار، أنت تختار، والإرادة تبدأ من عندك، والقَرار

بيديك، فما مدى قابلية رُوحك وجسدك وجوارحك لتُولِد من جديد؟!

اجْعَل من رحلة حجِّك رحلةَ الحياة، واجعَل مِن سفرك في الجنة

منتهاه، واجعَل بعد ميلادك الأول ميلادًا جديدًا.


أسأل الله لي و لكم الثبات اللهم صلِّ و سلم و زِد و بارك
على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين