المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ }


adnan
01-21-2013, 09:08 PM
الأخت / لولو العويس


{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ }
قراءة في الشكوى النبوية - 1


{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ }
حين يطلق الإنسانُ آهاتِه وزفراتِه؛ فإنك تدرك من عباراته عظيمَ مصيبتِه،
وشدةَ فجيعته، وكلما كان القائل أصدق، والمعبِّر عن هذه المصيبة
أقدر على البيان؛ كانت القدرة على الإفصاح عن حجم المشكلة وعميق
المأساة أكثر، ووقعُ خبرها على النفس أعظم،
فما ظنك - أيها المسلم - إذا كان الذي بث الشكوى هو أفصح من نطق بالضاد:
محمدٌ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم

وما ظنك إذا كان الذي نقل هذه الشكوى وبثها:
كتابٌ حوى أفصح الكلام، وأبينه وأصدقه: إنه القرآن؟!
حينها ستكون الألفاظ غايةً في التعبير عن الشكوى،
وعميقةً في الدلالة على عظم المصيبة!

تلك - أخي القارئ - هي شكاية محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِن هجر قومه للقرآن،
والتي سجلها القرآن، وأين؟
في سورة الفرقان بالذات؛ لأن الفرقان هو القرآن،
سجلها في قوله تعالى:

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }
متروكاً مُقاطَعاً مرغوباً عنه، وإن ربه ليعلم بشكواه وحال قومه
مع هذا القرآن؛ ولكنه دعاء البث والإنابة، يُشهِد به ربه على أنه لم
يأل جهداً، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه.
وتأملوا يا أمة القرآن: في قوله: { اتَّخَذُوا } فهي تدل على أنهم جعلوا
الهجر ملازماً له ووصفاً من أوصافه عندهم،
وهذا أعظم وأبلغ من أن يقال: إنهم هجروه؛
لأن هذا اللفظ يفيد وقوع الهجران منهم، دون دلالة على الثبوت والملازمة .
لقد هجروا القرآن الذي نزّله الله على عبده لينذرهم، ويبصرهم...،
هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق
من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم،
وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق.


فهل ندرك - معشر قراء كتاب الله - ونحن نقرأ هذه الآية أن شكوى
النبي صلى الله عليه وسلم مَن هجر القرآن، فيها دلالةٌ على أن ذلك من
أصعب الأمور عليه، وأبغضها لديه؟
وأن في حكاية القرآن لهذه الشكوى وَعِيدٌ كبير للهاجرين بإنزال
العقاب بهم إجابةً لشكوى نبيه ؟
أيُلامُ نبينا صلى الله عليه وسلم على شكواه وتفجعه!
والمهجور هو كلام ربه ، الذي فتح الله به آذاناً صماً، وعيوناً عمياً،
وقلوباً غلفاً؟
أليس هو عمدةَ الملة، وينبوعَ الحكمة، وآيةَ الرسالة، ونورَ الأبصار
والبصائر؟
إنه الصراط المستقيم، والدستور القويم.
وإذا كانت هذه شكواه من هجر قومه الكفار، فماذا لو أحياه الله اليوم!
لينظر في أنواع الهجر التي تلبّس بها أكثر المسلمين اليوم؟!
لوَجد فيهم الهاجرَ للعمل به - وإن قرأه وآمن به -، ولوَجد الهاجرَ
لتحكيمه والتحاكمَ إليه في أصول الدين وفروعه، ولرأى من هجر
الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها،
فطَلبَ شفاء دائه من غيره!
ولأبصر مَن هجر تدبرَه، وأعرض عن تفهمه ومعرفةِ مراد المتكلم به منه؛
فكان حظه منه كحظ اليهود من التوراة الذين قال الله عنهم:

{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }
أي: أنهم لا يعلمون من كتابهم إلا تلاوة ألفاظه فحسب،

أما العمل والتدبر فهم عنه بمعزل.


قال ابن القيم ـ بعد أن ذكر هذه الأنواع الخمسة من الهجر ـ :
وكل هذا داخل في قوله:
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }

ماذا لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً؟
أما والله لتزيدن شكواه إلى ربه، وهو يرى قوماً من المنتسبين للإسلام
لا يعرفون القرآن إلا في الموالد والمآتم والاحتفالات!
وحظهم من تدبره - في تلك الأحوال - هزُّ الرؤوس، وتمايلُ الأعناق !
أما حضوره في الحكم والتحاكم؛ فهذا ممنوع في أكثر بلاد الإسلام اليوم –
ولا حول ولا قوة إلا بالله -!
اللهم إلا في زاوية ضيقة فيما يسمى بالأحوال الشخصية !
ولو طلب المسلمُ أن يُحْكم له بهذا القرآن لسُخِر به،
بل ولأجبر على التحاكم إلى القانون الفرنسي أو الانجليزي!
ولا تَستغرب - إذا دخلت إحدى هذه المحاكم الوضعية –
أن ترى فوق رأس القاضي - الذي يحكم بالقانون - الآية الكريمة التالية:

{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }
بل كم رأينا من يضع يده على المصحف مقسماً به ليُعلن اليمين الدستورية!
أتدرون ما معنى هذا؟ إنه يقسم بالمصحف على تحكيم القوانين الوضعية !

فرحماك يا رب بأمة الإسلام

وعياذاً بالله من هذا التناقض الشنيع !
والمسلم يرى هذا الإقبال الكبير على قراءة كتاب الله ـ
وخصوصاً في هذا الشهر الكريم ـ ينتابه شعوران:
شعور بالفرح والسرور لمثل هذا المنظر، وشعورٌ بالحزن للبون الشاسع
بين ما يقرؤه القارئ وبين حاله التي هو عليها منذ سنوات طويلة! والمصيبة
تعظم حينما يرى القارئُ لألفاظه، والهاجرُ لبعض أحكامه
أو أكثرها أنه قد أتى بالمطلوب، وبما يحبه الله ورسوله بمجرد قراءته!
ولم يعلم أن له نصيباً مِن هجر القرآن بقدر تقصيره في تطبيق ما يقرأ،
ونصيباً من شكوى محمدٍ صلى الله عليه وسلم لربه!
أتريدون البرهان ؟؟؟