خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان : السيرة النبوية المخرج من الفتن
خُطَبّ الحرمين الشريفين خُطَبّتى الجمعة من المسجد الحرام مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين ألقى فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد - يحفظه الله خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان : السيرة النبوية المخرج من الفتن والتي تحدَّث فيها عن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأنها منهاجُ حياة يجبُ على كل مسلم فهمها واتباع ما جاء فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مُبيِّنًا أن المخرج من الفتن والأزمات المحيطة بالأمة في دراسة هذه السيرة العطِرة والنَّهل من معينها، كما أثنى الشيخ على التحالف الاسلامي الكبير في توحيد صفوف الأمة ضد الأخطار المحدقة بها و ضد الجماعات الإرهابية إي كان انتمائها . الحمدُ لله، الحمدُ لله ذي العزَّة القاهرة، والحكمة الباهِرة، لا إله إلا هو له الحمدُ في الأولى والآخرة، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على نعمه المُتكاثِرة، وآلائه المُتوافرة، الباطنةِ منها والظاهرة، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ الحقِّ واليقين غيرَ مُرتابةٍ ولا حائِرة، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أعلى منارَ الدين، وجمع القلوبَ المُتنافِرة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وعِترته الطاهرة، وأصحابِه الأنجُم الزاهِرة، والتابعين وتابِعيهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقبَت الأفلاكُ الدائِرة . فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإنما تُوعدون لآت. فتدارَكوا الهفَوات قبل الفوَات .. واستكثِروا من الصالحات .. وراقِبوا أنفسكم في الخلَوات، قبل أن يفجَأ هادِم اللذَّات مُذلُّ كل عزيز، ومُقتحِمُ كل حريص، حتى إذا ما نشبَت صوارِمُه، وحلَّت قواصِمُه، شخصَت الأبصارُ والمُقَل، ولم تنفع المُعالجاتُ والحِيَل . فرحِم الله أقوامًا بادروا الأوقات، وسارعوا إلى الخيرات، { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ آل عمران: 185 ] أيها المسلمون : لقد طال على كثيرٍ من المُسلمين الأمَد، واشتدَّ من الأعداء المكرُ والتسلُّط ، جدَّ الأعداءُ في إبعاد المُسلمين عن دينهم، فبرزَ الضعفُ والهوان في كثيرٍ من الديار، وجهِلوا ما جهِلوا من حقائق العقيدة والشريعة، فنزلوا عن مكانتهم واستِقلالهم، ليقتاتوا على بقايا من موائِد حضارات الآخرين، استعبدَتهم أُمم لا تُذكرُ معهم في عدٍّ ولا حساب . معاشر المسلمين : وحين تكثُر الفتن، وتتوالَى المُدلهِمَّات والنوازِل والمُحدثَات، يبحثُ الناسُ عن مخرَج، ويسألون عن المنجَى والمُلتجَأ. ولئن كان ذلك شاقًّا وعسيرًا على بعض الأُمم والبُلدان، فكيف يكون ذلك عند أهل الإسلام؟! وعندهم الصراط المُستقيم، والنور والهدى، ورائدُهم وقائدُهم وقُدوتُهم وأُسوتُهم هو الهادي البشير، والسراجُ المُنير محمدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم -. وهو القائل: ( تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا بعدي: كتابَ الله وسُنَّتي ) ووصيَّتُه في حديث العِرباض بن سارية - رضي الله عنه في قوله - رضي الله عنه -: ( وعظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً وجلَت منها القلوب، وذرفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله ! كأنها موعظةُ مُودِّعٍ، فأوصِنا، فكان مما قال - عليه الصلاة والسلام -: فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور ) نعم .. معاشر الأحبَّة : إن أي حياةٍ فاضلة لا بُدَّ لها من رائد، وكل مسيرةٍ ناجِحة لا بُدَّ لها من قائِد. ومَن غَيرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رائدٌ للحياة، وقائدٌ للأحياء؟! وهو الرائدُ الأمين، والمُبلِّغُ الأمين - عليه من الله أزكَى الصلاة وأتمُّ التسليم -. وهل كان رفعُ ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة خمس مراتٍ، يُنادَى باسمه الشريف عبر الأثير إلا لتتواصَل معه النفوسُ والأرواحُ من غير انقِطاعٍ ولا ليومٍ واحد، بل ولا جزءٍ من يوم . عباد الله : ومن أجل هذا كلِّه فقد حُفِظت سُنَّتُه وسيرتُه؛ لأنها الترجمةُ المأثورة لحياة هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم هذه السيرة المُتميِّزة لشمولها وكمالها، سيرةُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم هي المصدرُ الحي، والينبوع المُتدفِّق للحياة الإسلامية والمنهج الإسلامي المُستقيم، وهي المخرجُ، وهي المحجَّة . إنها أصحُّ سيرةٍ لتأريخ نبيٍّ مُرسَل، سيرةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم ليست مُجرَّد تاريخٍ يُروى، أو قصةٍ تُسرَد، أو واقعةٍ تُحكَى؛ ولكنها تسجيلٌ دقيقٌ لحياة رجلٍ اختارَه الله واصطفاه لرسالته، وأحاطه بعنايته ورعايته، وخصَّه منذ ولادته بخصائص ليست لأحدٍ غيره، { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام: 124 ] ولمزيدٍ من الإيضاح - معاشر الإخوة -، تأمَّلوا الفرقَ الكبير بين مسار التاريخ ومنهجه، ومسار السيرة النبوية ومنهجها : التاريخُ مرجعُه العقلُ الإنسانيُّ، والعاداتُ البشرية، وطبيعةُ العُمران، والأحوالُ الإنسانية . أما سيرةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فلا تحكمُها العادات، ولا تخضعُ للعقل المُجرَّد؛ بل المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - بشرٌ يُوحَى إليه، { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم: 3، 4 ]. ومن هنا أخطأ من أخطأ من المُستشرقين والمُستغرِبين، ومن سارَ على منهاجهم، وهم يدرُسون سيرةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وحياتَه؛ لأنهم نظروا إليها على أنها تأريخٌ إنسانيٌّ بحت . وما فقِهوا أن التاريخ المُجرَّد قاصِرٌ على الطبيعة الإنسانية، والحياة الاجتماعية . أما السيرةُ النبوية فلها مقاييسُها الربانية، وخصائصُها الرسالية؛ فالوحيُ مصدرُها، والاختيارُ من الله سرُّها، وإصلاحُ البشرية غايتُها، { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [ المؤمنون: 69 ] { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ آل عمران: 33 ]. الأنبياءُ معصُومون مُصلِحون هادُون مهديُّون، في خصائص دينية وغيبيَّة، لهم مُعجزاتُهم وكراماتُهم التي لا يُشارِكهم فيها غيرُهم. ومن أجل هذا، فإن أي دراسةٍ للسيرة تتجاهل أو تتغافلُ عن هذه الخصائص النبوية، وتجعلُها تأريخًا بشريًّا مُجرَّدًا، فسوف تقعُ في أغلاطٍ في المنهج، وفي التفسير، وفي النتائِج؛ بل قد يقعون في تخبُّطٍ وتناقُضٍ وجهلٍ وضلال . أما من تعمَّد السلوكَ المُعوَجَّ بقصد التشكيك أو التحريف أو الإبطال، فإن الله يُحبِطُ عمله، ويرُدُّ كيدَه في نحره، كما هو مُشاهَدٌ - ولله الحمد -، { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة: 67 ] { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } [ الحجر: 95 ] { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال: 30 ]. معاشر المُسلمين : وحينما أمر الله - سبحانه - بالاقتِداء برسوله، والتِزام سُنَّته، والتِزام هديِه وطريقته في قوله - عزَّ شأنُه -: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [ الأحزاب: 21 ] وفي قوله - جل وعلا -: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر: 7 ] وفي قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران: 31، 32 ] وأمثال هذه النصوص لما كان ذلك كذلك حفِظ الله لنا هذه السيرة النبوية، حفظًا لم يكن لأحدٍ قبلَه ولا بعدَه - عليه الصلاة والسلام -، وهيَّأ لها من أهل العلم والفقه والتحقيق والتوثيق ما يبهَرُ العقول، ويُبهِجُ النفوس، ويُقيمُ الحُجَّة. فحظِيَت السيرةُ بتوثيقها كتابًا وسنَّة، توثيقًا مُتواترًا، نقلاً في السطور، واستيعابًا في الصدور، ومُقترِنًا بمشاعر التعظيم والإجلال، ومُمتزِجًا بصادق الحب والتقدير. وقد تجلَّى هذا التوثيقُ والتدوينُ في جهود أجيالٍ من رجالات العلم، تعاقَبُوا على توثيق رواياتها وأحداثها، أفعالاً وأقوالاً وهديًا، في أقصَى درجات الدقَّة والضبط. ومنهجُ علماء الحديث - رفع الله قدرَهم، وأعلى مقامَهم - في التوثيق هو المنهجُ الذي اختصَّ به أهلَ الإسلام في توثيق ما نُقل عن نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، في شأنه كلِّه، تحريرًا وحفظًا وضبطًا، وصيانةً عن الروايات الموضوعة والمكذوبة، وتمييزًا للضعيف من الصحيح والحسن، في درجاتٍ من الضبط والإتقان. ولعله من المشمُول بالحفظ في قوله - عزَّ شأنُه -: |
All times are GMT +3. The time now is 10:41 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.