{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ }
محمد إسماعيل عتوك
قال الله تبارك وتعالى :
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ و َنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
(الصافات:103- 105) .
للنحاة والمفسرين في جواب { فَلَمَّا } قولان :
أحدهما : أنه مذكور في الكلام .
و الثاني أنه محذوف ..
فأما الذين قالوا : إنه مذكور فقد اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن الجواب هو قوله تعالى :
{ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ }
و الواو زائدة و هذا القول نسبه العكبري و أبو حيان إلى بعض الكوفيين ،
و إليه أشار الدكتور فضل حسن عباس .
و ثانيهما : أن الجواب هو قوله تعالى :
{ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ }
و إلى هذا ذهب الفرَّاء شيخ الكوفيين ، و حجته أن العرب تدخل الواو
في جواب﴿ فَلَمَّا ﴾ ، و ﴿ حتى إذا ﴾ ، و تلقيها. و تابع الفراءَ فيما ذهب إليه
الإمامُ الطبري ، و ردد كلامه دون زيادة ، أو نقصان .
و على هذا القول جمهور الكوفيين ، و كثير من المعاصرين .
و أما الذين قالوا : إن جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ محذوف فحجتهم أن الواو من
حروف المعاني ، و لا يجوز أن تزاد . وعلى هذا القول جمهور البصريين ،
و من تبعهم من المتأخرين . و تقدير الكلام عندهم :
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ }
سعدا و أجزل لهما الثواب { وَ نَادَيْنَاهُ } ..
وقدر الزمخشري الجواب بعد قوله :
{ و َنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ }
فقال : فإن قلت : أين جواب( لما ) ؟
قلت : هو محذوف ،
تقديره : فلما أسلما و تله للجبين و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا
كان ما كان مما تنطق به الحال ، و لا يحيط به الوصف من استبشارهما ،
واغتباطهما ، و حمدهما لله ، و شكرهما على ما أنعم به عليهما من
دفع البلاء العظيم بعد حلوله .
و نقل الرازي عن البصريين قولهم :
[ و حذف الجواب ليس بغريب في القرآن .
والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفًا ، كان أعظم و أفخم ]
و من الغريب أن نجد العكبري يقدر الجواب بقوله : ( نادته الملائكة )
محذوفًا ، و يرفض أن يكون الجواب : ( و ناديناه ) مذكورًا ؛
لأن القاعدة النحوية تمنع من ارتباط جواب ( لمَّا ) بالواو .
و لهذا نجدهم يلوون عنق الآية الكريمة ، و يخضعونها للقاعدة النحوية ،
و الذي ينبغي أن يكون هو العكس تمامًا .
و لست أدري كيف يستسيغ عاقل أن يقال في تأويل الآية الكريمة :
فلما أسلما و تلَّه للجبين - نادته الملائكة – و ناديناه أن يا إبراهيم !
مع أن المعنى أوضح من أن يحتاج في بيانه إلى مثل هذا التأويل .
و من المعاصرين الذين اختاروا القول بحذف الجواب
الدكتور فضل حسن عباس ، فقال في كتابه
( لطائف المنان و روائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن ) :
قالوا : الواو زائدة ، و التقدير : فلما أسلما ، تلَّه للجبين .
و ليس الأمر كذلك ، فليس قوله تعالى : ﴿ تَلَّهُ ﴾ جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ ؛
بل الجواب محذوف ، و التقدير : فلما أسلما ، و تلَّه للجبين ،
وباشر إبراهيم ذبح ابنه ، ( أجزل لهما في الثواب ) .
أو ( أكرمهما بالرحمة ) . أو ( مَنَّ الله عليهما بنعمة الفداء ) ..
و أنت إذا تأملت الآية جيدًا ، وتدبرت معناها حق التدبر، تبين لك أن كل
ما قيل فيها ليس بشيء ؛ لأن المعنى المراد منها ليس على ما ذكروا ،
بل المراد هو : أن إبراهيم و ابنه - عليهما السلام - لما فوَّضا أمرهما
إلى لله تعالى ، و امتثلا لأمره سبحانه بأن رضي الأول بذبح ابنه ،
و رضي الثاني بأن يذبح ، و صرعه والده على جبينه ، أو كبَّه على وجهه ،
وهمَّ بذبحه ، تصديقًا للرؤيا ، ناداه ربه عز و جل بقوله :
{ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا }
فتوقف إبراهيم - عليه السلام - عن الذبح ، والتفت وراءه ،
فإذا بذبح عظيم أرسله الله تعالى فداء لإسماعيل عليه السلام .
وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :
{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }
(الصافات:107) .
و هذا ما جاء في التفسير ، فقد جاء فيه :
لما أضجعه للذبح ، نوديَ من الجبل : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا
وعليه يكون قوله تعالى : ﴿ و َنَادَيْنَاهُ ﴾جوابًا لقوله :
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ }
و تكون الواو رابطة لجواب ﴿ فَلَمَّا ﴾بشرطها . و إنما جيء بها – هنا –
دون غيرها من أدوات الربط ؛ لما فيها من معنى الجمع ، الذي لا يفارقها ،
فدلت على أن الجواب قد وقع مع وقوع الشرط في وقت واحد .
و لولا وجود هذه الواو في الكلام ، لتمَّ ذبح إبراهيم - عليه السلام - لابنه
بعد أن صرعه على جبينه ، و لم ينفعه النداء شيئًا .
و هكذا يتبين لنا أن الله تعالى ، لما أراد أن يوقف هذا الذبح ،
ويمنع وقوعه ، قرن نداءه لإبراهيم - عليه السلام - بهذه الواو ،
التي قال البعض فيها : إنها زائدة ، و قال البعض الآخر : إنها عاطفة ،
و الجواب محذوف ، و عدوا حذفه من بلاغة القرآن و إعجازه ،
و لم يدروا أن سرَّ الإعجاز في إدخال هذه الواو على جواب ﴿ فَلَمَّا ﴾ ..
و من يعرف جوهر الكلام ، و يدرك أسرار البيان ، يتبين له أن ما قلناه
في هذه الواو هو الحق . و الله تعالى أعلم بأسرار بيانه ،
و له الحمد و المنَّة ، وسلام على إبراهيم !!!