قَوْلُهُ : ( الظَّهْرُ يُرْكَبُ )
بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ، وَكَذَلِكَ يُشْرَبُ ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ ،
والْمُرَادُ مِنَ الظَّهْرِ ظَهْرُ الدَّابَّةِ ، وَقِيلَ الظَّهْرُ الْإِبِلُ الْقَوِيُّ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ
( وَلَبَنُ الدَّرِّ ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الدَّارَّةِ أَيْ : ذَاتِ الضَّرْعِ ،
وقَوْلُهُ لَبَنُ الدَّرِّ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ
( وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ نَفَقَتُهُ ) أَيْ : كَائِنًا مَنْ كَانَ ، هَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ،
و فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ إِذَا قَامَ بِمَصْلَحَتِهِ ،
وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ ، وهُوَ قَوْلُأَحْمَدَوَإِسْحَاقَوَطَائِفَةٍ
قَالُوا : أَيَنْتَفِعُ الْمُرْتَهِنُ مِنَ الرَّهْنِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ ،
وَلَا يَنْتَفِعُ بِغَيْرِهِمَا لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ ،
وأَمَّا دَعْوَى الْإِجْمَالِ فَقَدْ دَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى إِبَاحَةِ الِانْتِقَاعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْفَاقِ ،
وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ ، وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا لَكِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُرْتَهِنِ ؛
لِأَنَّ انْتِفَاعَ الرَّاهِنِ بِالْمَرْهُونِ لِكَوْنِهِ مَالِكَ رَقَبَتِهِ لَا لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ ،
بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ : وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَنْتَفِعُ مِنَ الْمَرْهُونِ بِشَيْءٍ ،
وتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ لِكَوْنِهِ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا التَّجْوِيزُ لِغَيْرِ الْمَالِكِ أَنْ يَرْكَبَ وَيَشْرَبَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ،
وَالثَّانِي تَضْمِينُهُ ذَلِكَ بِالنَّفَقَةِ لَا بِالْقِيمَةِ ،
قَالَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَرُدُّهُ أُصُولٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا
وَآثَارٌ ثَابِتَةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِي صِحَّتِهَا ، ويَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ حَدِيثُابْنِعُمَرَ :
لَا تُحْلَبُ مَاشِيَةُ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِرَوَاهُالْبُخَارِيُّ . انْتَهَى ،
وقَالَ الشَّافِعِيُّيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ رَهْنِ ذَاتِ دَرٍّ ،
وَظَهْرٍ لَمْ يَمْنَعْ الرَّاهِنَ مِنْ دَرِّهَا وَظَهْرِهَا ، فَهِيَ مَحْلُوبَةٌ وَمَرْكُوبَةٌ لَهُ
كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الرَّهْنِ : وَاعْتَرَضَهُ الطَّحَاوِيُّ بِمَا رَوَاهُهُشَيْمٌعَنْزَكَرِيَّا
فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَلَفْظُهُ :
إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلَفُهَا. الْحَدِيثَ ،
قَالَ : فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُرْتَهِنُ لَا الرَّاهِنُ ،
ثُمَّ أَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا
فَلَمَّا حُرِّمَ الرِّبَا ارْتَفَعَ مَا أُبِيحَ فِي هَذَا لِلْمُرْتَهِنِ
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ ،
وَالتَّارِيخُ فِي هَذَا مُتَعَذِّرٌ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ مُمْكِنٌ ،
وقَدْ ذَهَبَالْأَوْزَاعِيُّوَاللَّيْثُوَأَبُوثَوْرٍإِلَى حَمْلِهِ عَلَى مَا إِذَا امْتَنَعَ الرَّاهِنُ
مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَرْهُونِ فَيُبَاحُ حِينَئِذٍ لِلْمُرْتَهِنِ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْحَيَوَانِ
حِفْظًا لِحَيَاتِهِ وَلِابْقَاءِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ ،
وَجُعِلَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ نَفَقَتِهِ الِانْتِفَاعُ بِالرُّكُوبِ ،
أَوْ بِشُرْبِ اللَّبَنِ بِشَرْطِ أَلَّا يَزِيدَ قَدْرُ ذَلِكَ ، أَوْ قِيمَتُهُ عَلَى قَدْرِ عَلَفِهِ ،
وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَسَائِلِ الظَّفَرِ ، كَذَا أَفَادَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي .
قُلْتُ : حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا إِذَا امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَرْهُونِ خِلَافُ الظَّاهِرِ ،
وقَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ : إِنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْحَدِيثِ بِمَا لَمْ يُقَيِّدْ بِهِ الشَّارِعُ ،
وأَمَّا قَوْلُابْنِ عَبْدِ الْبَرِّيَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ حَدِيثُابْنِ عُمَرَ
: لَا تُحْلَبُ مَاشِيَةُ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ،
فَفِيهِ مَا قَالَ الْحَافِظُ فِي جَوَابِالطَّحَاوِيِّمِنْ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ ،
وَالتَّارِيخُ فِي هَذَا مُتَعَذِّرٌ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثِينَ مُمْكِنٌ ،
وَقَالَ فِي السُّبُلِ : أَمَّا النَّسْخُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ
عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ ، وَلَا تَعَذُّرَ هُنَا ؛
إِذْ يُخَصُّ عُمُومُ النَّهْيِ بِالْمَرْهُونَةِ . انْتَهَى ،
وأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ يَرُدُّهُ أُصُولٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَآثَارٌ ثَابِتَةٌ
فَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ،
والْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْأَصْلِ وَتِلْكَ الْأُصُولِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا
وَتِلْكَ الْآثَارِ الثَّابِتَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا مُمْكِنٌ ،