2- أثبتوا صدق أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم
في إبلاغ الرسالة ، وإلا لأخفى هذه الآيات
وما استطاع أحد من البشر أن يعرف إذا كانت أنزلت أم لا .
فالله تعالى قال في محكم تنزيله :
}إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ
وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا {
سورة النساء .
قال ابنُ عبَّاس :
[ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَار يُقالُ لَهُ طُعْمَةُ بْنُ أبَيْرِق ؛
سَرَقَ دِرْعاً مِنْ جَارٍ لَهُ يقالُ لَهُ : قتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ ،
وَكَانَتِ الدِّرْعِ فِي غِرَارَةٍ وَجِرَابٍ فِيْهِ دَقِيْقٌ ، فَانْتَثَرَ الدَّقِيْقُ مِنَ الْمَكَانِ
الّذِي سَرَقَهُ إلَى بَاب مَنْزِلِهِ ، فَفُطِنَ بهِ أنَّهُ هُوَ السَّارِقُ ؛
فَمَضَى بالدِّرْعِ إلَى يَهُودِيٍّ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ فَأَوْدَعَهُ إيَّاهَا ،
فَالْتُمِسَتِ الدَّرْعُ عِنْدَ طُعْمَةَ فَلَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ ، فَحَلَفَ لَهُمْ مَا أخَذهَا وَلاَ لَهُ عِلْمٌ
فَقَالَ أصْحَابُ الدِّرْعِ : لَقَدْ أدْلَجَ عَلَيْنَا وَأخَذهَا ،وَطَلَبْنَا أثَرَهُ حَتَّى دَخَلْنَا دَارَهُ
وَلَقِيْنَا الدَّقِيْقَ مُنْتَثِراً ، فَلَمَّا حَلَفَ تَرَكُوهُ وَاتَّبَعُواْ أثَرَ الدَّقِيْقِ حَتَّى انْتَهَوا
إلَى مَنْزِلِ الْيَهُودِيِّ وَطَلَبُوهُ ، فَقَالَ : دَفَعَهَا إلَيَّ طُعْمَةُ بْنُ أبَيْرِق ،
وَشَهِدَ لَهُ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى ذلِكَ ،
فَقَالَ قَوْمُ طُعْمَةَ :
انْطَلِقُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنُكَلِّمُهُ فِي صَاحِبنَا نُعذُرُهُ
وَنَتَجَاوَزُ عَنْهُ ، فَإنَّ صَاحِبَنَا بَرِيْءٌ مَعْذُور ٌ.
فَأَتَواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانُواْ أهْلَ لِسَانٍ وَبَيَانٍ ،
فَسَأَلُوهُ أنْ يَعْذُرَهُ عِنْدَ النَّاسِ ؛ فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
أنْ يَعْذُرَهُ وَيُعَاقِبَ الْيَهُودِيَّ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ]
انظر : تفسير الطبري 9/182 ,
تفسير الرازي 5/369 ,
تفسير ابن كثير 2/405 .
فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم غير أمين على الوحي
– وحاشاه – لأخفي هذه الآيات التي فيها لوم شديد له .
ومثاله أيضاً ما روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان قد أوحى إليه
أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج اللّه إياها ،
فلما تشكى زيد للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم من خلق زينب وأنها لا تطيعه ،
وأعلمه أنه يريد طلاقها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على
جهة الأدب والوصية :
) اتقِ اللهَ، وأمسِكْ عليك زوجَك (
وقد كان الله عز وجل قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيداً سيطلق
زينب ، وأنه ستكون زوجة له ، و أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفي
هذا ويخشى من مقولة الناس ، أنه تزوج مطلقة من كان يدعى إليه ،
فعاتبه ربه على ذلك في قول الله تعالى :
} وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ
وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ
إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا {
(37) سورة الأحزاب
انظر : جامع البيان للطبري (22/11)
و تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/489) ،
و انظر البخاري ( برقم 4787)
3- كما أنهم لم يفهموا أن العتاب أو العتب دليل وجود الود بينك
وبين الشخص الذي تلومه , وعلى قدر الود يكون اللوم ،
فان كان اللوم عظيما كان هناك مكان للوم ولو على شيء صغير،
وإذا كان الود بسيطا لا يكون اللوم إلا على أشياء كبيرة .
وأن العتاب جاء ليوجه النبي صلى الله عليه وسلم
إلى الأمثل والأوفق والأرفق والأحسن من السياسات والقرارات ،
عندما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون خلاف الأولى .
قال سبحانه :
} عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) {
سورة عبس
فهذه الحادثة نزلت في عبد الله بن أم مكتوم الأعمى الفقير؛
الذي أعرض عنه الرسول عليه الصلاة و السلام لانشغاله مع كبراء قريش
لعلهم يسلمون ويسلم معهم من يتبعهم ، وهذا الفعل لم يقصد به
النبي صلى الله عليه وسلم أي انحياز طبقي بين الغني أو الفقير ،
ولكنه ظن أن الغني سيكون مؤثرا في الدعوة إن أسلم أكثر
من الأعمى الفقير ،ونزلت الآية تعاتب الرسول عليه الصلاة و السلام
عتابا رقيقا حتى أن الله تعالى لم يوجه الخطاب مباشرة
لرسوله الكريم تلطفا ورحمة وإنما جاء بصيغة المجهول
} عَبَسَ وَتَوَلَّى{
ثم بعدها جاء ضمير المخاطب
} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى{
وهذا من حب الله تعالى لرسوله ولطفه به ، لأنه يعلم أنه لم يعرض
عن الأعمى تكبرا، وإنما حرصه الشديد على إسلام صناديد قريش
وزعمائها ما هو إلا عزة للإسلام و المسلمين .
فعاتب الله تعالى رسوله قائلا يا محمد لما تترك السهل وتدخل الصعب
إن الله غني عن هؤلاء جميعا فلا تضيق على نفسك وتحملها المشقة
لتهدي من يرفض قلبه الهداية ,
قال تعالى :
} فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا {
(6) سورة الكهف
وقوله تعالى :
} فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) {
سورة فاطر
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يحرص على أن يؤدي ما يجب
على أمته أن تقتدي به ، حتى ولو كان هذا العمل قد أعفاه الله منه ،
والله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , ولكنه مع ذلك كان
يستغفر الله في اليوم مائة مرة
( كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلِّي حتى تَرِمَ، أو تنتَفِخَ، قدَماه،
فيُقالُ له، فيقولُ : أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا )
الراوي: المغيرة بن شعبة -المحدث:البخاري
المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6471
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
فهذه الآيات التي وردت في عتاب النبي صلى الله عليه وسلم
هي دليل أكد على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ,
وبرهان صادق على أن هذا القرآن نزل من عند الله تعالى .