أُخَـــيّ
تأمل معي قصة أصحاب السبت لما مكروا على الله ،
واستخفوا بزواجره ، فمسخوا قردة ..
قال الله تعالى :
{ واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ
إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً
وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
أي: واسأل يا محمد يهود المدينة عن أخبار أسلافهم
وعن أمر القرية التي كانت بقرب البحر وعلى شاطئه ،
ماذا حل بهم لما عصوا أمر الله واصطادوا يوم السبت ؟
ألم يمسخهم قردة وخنازير؟!
إن الاعتداء في السبت مجرد معصية أهون من كثير من معاصيهم ؛
كقتل الأنبياء وطلب رؤية الله جهرة وطلب أصنام وعبادة العجل ..
قطعا الاعتداء في السبت أخف من كل هذا بلا شك ،
وإنما مسخوا باعتدائهم في السبت ،
وهذا يدلك على أن العقوبة لم تكن على مجرد المعصية ،
"إن معصيتهم هذه كان فيها اسخفاف بالله ،
إذ حفروا الحفر يوم الجمعة ، ونصبوا عليها الشباك ،
فوقعت فيها الأسماك يوم السبت وهم ينظرون ،
ثم جمعوا السمك يوم الأحد ..
فتراهم قد خادعوا ومكروا بنصب الشباك يوم الجمعة ،
وجلسوا كالمستخفين بربهم يوم السبت يضعون أيديهم في جيوبهم ،
وهم ينظرون إلى السمك يتساقط في شباكهم التي نصبوها
ويقولون : يا رب انظر كيف نحن مطيعون لك يوم السبت
فلم نصنع شيئاً مطلقاً .."
و تعال معي إلى سرد القصة لمزيد استفادة:
كان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يُجعل لهم يوم راحة
يتخذونه عيداً للعبادة ، ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش ،
ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ، ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم
على المغريات والأطماع ، وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم
بهذه المغريات والأطماع ..
وكان ذلك ضروريا لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم
وباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلاً ،
ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية لتعتاد الصمود والثبات .
فضلا على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله ويؤهلون
لأمانة الخلافة في الأرض ..
وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختيار وُجِّه
من قبلُ إلى آدم وحواء .. فلم يصمدا له ،
واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى ،
ثم ظل هو الاختبار الذي لابد أن تجتازه كل جماعة قبل
أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض ..
وإنما يختلف شكل الابتلاء ولا تتغير فحواه !
ولم يصمد فريق من بني إسرائيل – في هذه المرة – للابتلاء
الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم
فلقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل قريبة
فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها
فإذا مضى السبت وجاءتهم أيام الحل لم يجدوا الحيتان قريبة
ظاهرة كما يجدونها يوم الحرم ! ..
وهذا ما أُمِر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يُذكّرهم به ،
ويذكُر ماذا فعلوا وماذا قالوا ..
لقد وقع ذلك لأهل القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل ..
فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء ،
فتتهاوى عزائمهم ، وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم ،
فيحتالون الحيل - على طريقة اليهود - للصيد في يوم السبت !
وما أكثر الحيل عندما يلتوي القلب ، وتقل التقوى ،
ويصبح التعامل مع مجرد النصوص ،
ويراد التفلت من أوضح الواضح من الأحكام .
إن أوامر الشريعة ونواهيها لا يحرسها مجرد النصوص في الكتاب
و السنة أو جهود الدعاة والوعاظ ، بل ولا السيف ولا المدفع ،
إنما تحرسها القلوب اليقظة التقية التي تستقر تقوى الله فيها
وخشيته ، فتحرس هي شريعتها وتحميها .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(الحلالُ بَيِّنٌ ، والحرامُ بَيِّنٌ ، وبينهما أمورٌ مُشتَبِهاتٌ ،
لا يعلمُها كثيرٌ من النَّاسِ ،
فمن اتَّقى الشُّبُهاتِ فقد استبرأَ لعِرضِه ودِينِه ،
ومن وقع في الشُّبُهاتِ وقع في الحرامِ ، كراعٍ يرعى حول الحِمى ،
ألا وإنَّ لكل ملِكٍ حِمًى ، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ تعالى في أرضِه محارمُه ،
ألا وإنَّ في الجسدَ مُضغةً ، إذا صلُحَتْ صلُحَ الجسدُ كلُّه ،
وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه ، ألا وهي القلبُ )
فمهما قلنا : "حلال .. حرام .. يجوز .. لا يجوز .. يجب .. يكره .. ،
فلن يجد هذا الكلام صدى إلا عند أصحاب القلوب التقية النقية
تفشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية .
تفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر ولا سلطان فيها
ومن أجل ذلك تعجز الأجهزة البشرية التي تقيمها الدول لحراسة
وتعجز الملاحقة والمراقبة التي تتابع الأمور من سطوحها !
وهكذا راح فريق من سكان القرية التي كانت حاضرة البحر
يحتالون على السبت الذي حُرم عليهم الصيد فيه ..
وروي أنهم كانوا يقيمون الحواجز على السمك ويحوِّطونه
حتى إذا جاء الأحد سارعوا إليه فجمعوه
وقالو ا: إنهم لم يصطادوه في السبت ، فقد كان في الماء
– وراء الحواجز – غير مصيد".
فيا من تصيد المعاصي والسيئات مكراً وخداعا ً؛
*** الله يراك ويعلم نواياك ***
فاتق الله واحذر مغبة ذنبك وعاقبة فعلك ..
ومهما خدعت الناس ومكرت على الخلق وانطوى ذلك عليهم
{ لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }
يا من تملأ قلبك بالهموم وتدنسه بالمعاصي عامداً
ثم تسأل الله سلامة القلب ! ..
مستمر في شحن قلبك بالهموم ومتعمد ..
تحمل هم المال وهم اللباس وهم الصيف وهم الشتاء وهم العيال
وهم البنات وهم الراتب وهم الشغل وهم .. وهم ..
وأنت المداوم على تدنيسه !!
يا من تحرص على الدنيا وتغفل عن الآخرة ،
يا من كثرت ذنوبه و تأخرت توبته
إن هذا لمكر .. فإياك أن تمكر ..
كن صادقاً مع الله تعالى..
لا تكن ثعلباً فالطريق وعرة ..
أفيه تمكر وهو دليلك الوحيد ؟!
ولذا؛ إذا أردت الوصول إلى الله
واجعل همومك هما واحداً هو الله ..
الهموم نجسة فطهر قبلك منها ..
و صلى الله و سلم على النبي محمد و على آله و صحبه
و الحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد حسين يعقوب حفظه الله
نقلا عن موقع الشيخ