فكتب القاضي إلى الأمير :
" أما بعد.. أبقى الله الأمير وحفظه ، وأتم نعمته عليه ،
فقد جاءتني امرأة فذكرت أن الأمير اغتصب بستانها أمس ،
فليحضر الأمير الحكم الساعة ، والسلام ".
فلما قرأ الأمير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا ، ونادى على صاحب
الشرطة ،
وقال له :
اذهب إلى القاضي شريك ، وقل له -بلساني- :
يا سبحان الله!! ما رأيت أعجب من أمرك !
كيف تنصف على الأمير امرأة حمقاء لم تصح دعواها ؟
فقال صاحب الشرطة :
لو تفضل الأمير فأعفاني من هذه المهمة ، فالقاضي كما تعلم صارم ،
فقال الأمير غاضبًا :
اذهب وإياك أن تتردد .
فخرج صاحب الشرطة من عند الأمير وهو لا يدري كيف يتصرف ،
ثم قال لغلمانه :
اذهبوا واحملوا إلى الحبس فراشًا وطعامًا وما تدعو الحاجة إليه ،
ومضى صاحب الشرطة إلى شريك ،
فقال القاضي له :
إنني طلبت من الأمير أن يحضر بنفسه ، فبعثك تحمل رسالته التي لا
تغني عنه شيئًا في مجلس القضاء !!
ونادي على غلام المجلس وقال له :
خذ بيده وضعه في الحبس ،
فقال صاحب الشرطة :
والله لقد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه في الحبس .
وبعث الأمير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه في الأمر
فأمر بحبسهم ، فعلم الأمير بما حدث ، ففتح باب السجن وأخرج مَنْ
فيه ، وفي اليوم التالي ، عرف القاضي شريك بما حدث ،
فقال لغلامه :
هات متاعي والحقني ببغداد ،
والله ما طلبنا هذا الأمر (أي القضاء) من بني العباس ،
ولكن هم الذين أكرهونا عليه ،
ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحرارا .
فلما عرف الأمير موسى بذلك ، أسرع ولحق بركب القاضي شريك ،
وقال له :
يا أبا عبد الله أتحبس إخواني بعد أن حبست رسولي ؟
فقال شريك :
نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه ،
وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء ، وعدوان على العدل ،
وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء ،
ولست براجع عن غايتي أو يردوا جميعًا إلى السجن ،
وإلاَّ مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء ،
فخاف الأمير وأسرع بردِّهم إلى الحبس ، وجلس القاضي في مجلس
القضاء ، واستدعى المرأة المتظلمة
وقال :
هذا خصمك قد حضر..
فقال الأمير :
أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين ،
فقال شريك :
أما الآن فلك ذلك .
ثم سأل الأميرَ عما تَدَّعيه المرأة ،
فقال الأمير :
صدقت..
فقال القاضي شريك :
إذن ترد ما أخذت منها، وتبني حائطها كما كان ..
قال الأمير :
أفعل ذلك ،
فسأل شريك المرأة :
أبقي لك عليه شيئًا ؟
قالت :
بارك الله فيك وجزاك خيرًا ،
وقام الأمير من المجلس وهو يقول :
مَنْ عَظَّمَ أمرَ اللِه أذل الله له عظماء خلقه ،
ومات القاضي شريك سنة 177 هـ .
موسوعة الاسرة المسلمة
في الله اخوكم مصطفى الحمد