وترك عمر زينة الحياة الدنيا ، ورفض كل مظاهر الملك التي كانت
لمن قبله من الخلفاء ، وأقام في بيت متواضع بدون حـرس ولا
حجاب ، ومنع نفسه التمتع بأمواله ، وجعلها لفقراء المسلمين ،
وتنازل عن أملاكه التي ورثها عن أبيه ، ورفض أن يأخذ راتبًا من
كما جرَّد زوجته فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان من حليها
وجواهرها الثمينة ، وطلب منها أن تعطيها لبيت المال ،
إما أن تردي حليك إلى بيت المال ، وإما أن تأذني لي في فراقك ،
فإني أكره أن أكون أنا وأنت ومعك هذه الجواهر في بيت واحد ،
فأنت تعلمين من أين أتى أبوك بتلك الجواهر ،
بل أختارك يا أمير المؤمنين عليها وعلى أضعافها لو كانت لي ،
فأمر عمر بتلك الجواهر فوضعت في بيت المال .
وبلغه أن أحد أولاده اشترى خاتمًا له فصٌّ بألف درهم ،
فكتب إليه يلومه ، ويقول له :
بِعه وأشبع بثمنه ألف جائع ، واشترِ بدلاً منه خاتمًا من حديد ،
رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه .
ويحكى أن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- كان يقسم تفاحًا
للمسلمين ، وبينما هو يفرقه ويقسمه على من يستحقه إذ أخذ ابن
صغير له تفاحة ، فقام عمر وأخذ التفاحة من فمه ،
فذهب الولد إلى أمه وهو يبكي ، فلما علمت السبب ، اشترت له
تفاحًا ، فلما رجع عمر شم رائحة التفاح ،
يا فاطمة ، هل أخذت شيئًا من تفاح المسلمين ؟
والله لقد انتزعتها من ابني فكأنما انتزعتُها من قلبي ،
لكني كرهتُ أن أضيِّع نفسي بسبب تفاحة من تفاح المسلمين !!
وها هو ذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي تحت تصرفه
وطوع أمره أموال الدولة وكنوزها ،
تشتهي نفسي عسل لبنان ، فأرسلت فاطمة إلى ابن معد يكرب ،
وذكرت له أن أمير المؤمنين يشتهي عسل لبنان ،
فأرسل إليها بعسل كثير ، فلما رآه عمر غضب ،
كأني بك يا فاطمة قد بعثتِ إلى ابن معد يكرب ،
ثم أخرج عمر العسل إلى السوق ، فباعه ، وأدخل ثمنه بيت المال ،
وبعث إلى عامله على لبنان يلومه ،
لو عُدْتَ لمثلها فلن تلي لي عملا أبدًا ، ولا أنظر إلى وجهك .
وكان عمر بن عبد العزيز حليمًا عادلاً ، خرج ذات ليلة إلى المسجد
ومعه رجل من الحراس ، فلما دخل عمر المسجد مرَّ في الظلام برجل
نائم ، فأخطأ عمر وداس عليه ، فرفع الرجل رأسه إليه وقال :
فتضايق الحارس وهَمَّ أن يضرب الرجل النائم فمنعه عمر،
إن الرجل لم يصنع شيئًا غير أنه سألني : أمجنون أنت؟
وكان عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- رقيق المشاعر ، رحيمًا
كتب ذات يوم إلى واليه في مصر قائلاً له :
بلغني أن الحمالين في مصر يحملون فوق ظهور الإبل فوق ما
تطيق ، فإذا جاءك كتابي هذا ،
فامنع أن يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل .
وقد حرص عمر الزاهد العادل التقي على ألا يقرب أموال المسلمين
ولا يمد يده إليها ، فهي أمانة في عنقه ، سيحاسبه الله عليها يوم
القيامة ، فكان له مصباح يكتب عليه الأشياء التي تخصه ، ومصباح
لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين لا يكتب على ضوئه لنفسه
وذات مرة سخنوا له الماء في المطبخ العام ، فدفع درهمًا ثمنًا
لقد كان همه الأول والأخير أن يعيش المسلمون في عزة وكرامة ،
ينعمون بالخير والأمن والأمان ،
كتب إلى أحد أمرائه يقول :
لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي إليه ، وخادم يكفيه مهنته،
وفرس يجاهد عليه عدوه ، وأثاث في بيته ،
وكان يأمر عماله بسداد الديون عن المحتاجين ،
وتزويج من لا يقدر على الزواج ،
بل إن مناديه كان ينادي في كل يوم :
أين الناكحون ؟ أين المساكين ؟ أين اليتامى ؟
حتى استطاع بفضل من الله أن يغنيهم جميعًا .
خرج عمر راكبًا ليعرف أخبار البلاد ، فقابله رجل من المدينة
المنورة فسأله عن حال المدينة ،
إن الظالم فيها مهزوم ، والمظلوم فيها ينصره الجميع ،
وإن الأغنياء كثيرون ، والفقراء يأخذون حقوقهم من الأغنياء ،
ففرح عمر فرحًا شديدًا وحمد الله ،
وهكذا رجـل مـن ولـد (زيـد بن الخطــاب) يقول :
(إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفًا ، فما مات حتى جعل
الرجل يأتينا بالمال العظيم ،
اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء ،
فما يبرح حتى يرجع بماله ، يبحث عمن يعطيه فما يجد ،
فيرجع بماله ، قد أغنى الله الناس على يد عمر ).
طُلب منه أن يأمر بكسوة الكعبة ، كما جرت العادة بذلك كل عام ،
إني رأيت أن أجعل ذلك (ثمن كسوة الكعبة) في أكباد جائعة ،
وبعد فترة حكمه التي دامت تسعة
وعشرين شهرًا ، اشتد عليه المرض ،
فجاءه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك ،
فقال له : يا أمير المؤمنين ، ألا توصي لأولادك ، فإنهم كثيرون ،
وقد أفقرتهم ، ولم تترك لهم شيئًا ؟!
وهل أملك شيئًا أوصي لهم به ،
أم تأمرني أن أعطيهم من مال المسلمين ؟
إما أن يكونوا صالحين فالله يتولاهم ،
وإما غير صالحين فلا أدع لهم ما يستعينون به على معصية الله ،
وجمع أولاده ، وأخذ ينظر إليهم ، ويتحسس بيده ثيابهم الممزقة ؛
يا بَنِي ، إن أباكم خُيِّر بين أمرين :
بين أن تستغنوا (أي تكونوا أغنياء) ويدخل أبوكم النار ،
وبين أن تفتقروا ، ويدخل أبوكم الجنة ، فاختار الجنة.. يا بَنِي ،
حفظكم الله ورزقكم ، وقد تركتُ أمركم إلى الله وهو يتولى الصالحين.
اخرجوا عني ، فخرجوا ، وجلس على الباب مَسْلَمة
بن عبد الملك وأخته فاطمة ، فسمعاه يقول :
مرحبًا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ،
{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض
ولا فسادًا والعاقبة للمتقين }
ومات عمر بعد أن ضرب المثل الأعلى في العدل والزهد والورع...
مات أمير المؤمنين خامس الخلفاء الراشدين !!
هذا الضريح موجود في المقام المشاد بالقرب من المسجد المسمى
باسمه في بداية "حي الأرمن" من جهة حي "باب الدريب" في
وقد اختلف الباحثون والمؤرخون حول مكان الضريح الحقيقي ،
فقد أشارت العديد من الكتب التاريخية والمراجع المتنوعة إلى
وجود أربعة أماكن يشار إليها بلافتات على أنها مكان ضريح الخليفة
"عمر بن عبد العزيز" (رضي الله عنه) الحقيقي ،
ثلاثة منها في "حمص" وواحد في "غوطة دمشق" ،
وأغلب الظن أن السبب في هذا اللبس ،
هو إجماع المؤرّخين على أنَّ الخليفة "عمر" دفن في
(المسعودي ج 3 ص 192-الطبري جزء 8 ص136-
معجم البلدان ج2ص517 وغيرهم)
لكنهم اختلفوا في تحديد موقع الدير لأنهم لم يستطيعوا معرفة أي
"سمعان" هو المقصود هل هو "سمعان العمودي"
أم "المتباله" أم "العجائبي"؟؟.