عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-20-2013, 09:45 PM
adnan adnan غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
المشاركات: 13,481
افتراضي

فقال: إن لي مظلمة، وإني أسألك أن تسمع مني مثلاً أضربه
قبل أن أذكر مظلمتي.
قال: قل.
قال: إني وجلتُ لله تبارك وتعالى، خلَقَ الخلقَ على طبقاتٍ،
فالصبيُّ إذا خرج إلى الدنيا لا يعرف إلا أمه، ولا يطلبُ غيرها،
فإذا فزع من شيء لجأ إليها، ثم يرتفعُ عن ذلك طبقة،
فيعرف أن أباه أَعَزّ من أمه، فإن أفزعه شيءٌ لجأ إلى أبيه،
ثم يبلغ ويستحكم، فإن أفزعه شيء لجأ إلى سلطانه،
فإن ظلمه ظالم انتصر به، فإذا ظلمه السلطان لجأ إلى ربه واستنصره،
وقد كنتُ في هذه الطبقات، وقد ظلمني ابن نهيك
( عثمان بن نهيك قائد جيش أبي جعفر) في ضيعة لي في ولايته،
فإن نصرتني عليه، وأخذتَ بمظلمتي وإلا استنصرتُ إلى الله ولجأتُ إليه،
فانظر لنفسك أيها الأمير أو دعْ.
فتضاءل أبو جعفر
وقال: أعد عليَّ الكلام.
فأعاده فقال: أما أول شيء فقد عزلتُ ابن نهيك عن ناحيته.
وأمر بردِّ ضيعته
( تاريخ دمشق / ابن عساكر)
لقد كانت الحضارة الإسلامية تُعنى بجميع الأفراد،
ولم تُفرِّق المؤسسة القضائية الإسلامية بين الرعايا على أساس الدين
أو الجنس أو المكانة الاجتماعية، كما كان عند الرومان والفرس،
أو حتى عند العرب أنفسهم قبل الإسلام،
وكون خليفة المسلمين يخضع لقرار المؤسسة القضائية،
ويُنفِّذ هذا القرار لرجل من عامة المسلمين- قد لا يكون صاحب منصب
أو قبيلة تسانده، أو مال يتزلَّف به - لَيُؤَكِّد على رقي الحضارة الإسلامية،
ويُعمِّق عندنا أن هذه الحضارة كانت تحترم مواطنيها،
وتقف بجوار الضعيف والمظلوم منهم.
بل رأينا من الخلفاء، من يُقَدِّم النظر في المظالم على عيادة أمه المريضة
وزيارتها؛ فقد حُكي أن الخليفة الهادي (ت 170هـ)
" ركب يومًا يريد عيادة أمه الخيزران من علَّة كانت وجدتها،
فاعترضه عمر بن بزيع ،
فقال له: يا أمير المؤمنين، ألا أدلك على وجه هو أعود عليك من هذا؟
فقال: ما هو يا عمرُ؟
قال: المظالم، لم تنظر فيها منذ ثلاث.
قال: فأومأ إلى المُطْرِقَة (حراسته وجنده) أن يميلوا إلى دار المظالم،
ثم بعث إلى الخيزران بخادم من خدمه يعتذر إليها من تخلفه،
وقال: قل لها: إن عمر بن بزيع أخبرنا من حق الله بما هو أوجب علينا
من حقِّك، فملنا إليه، ونحن عائدون إليك في غد إن شاء الله".
وتأديبًا من الخلفاء للعمال الظالمين كان المنْصُور إذا عزل عاملاً أخذ
ماله وتركه في بيت مالٍ مفرد سمَّاه بيت مال المظالم، وكتب عليه
اسم صاحبه لكن هذه المصادرات كانت إلى حين؛
إذ كانت غايتها تأديب هؤلاء الولاة وترهيبهم؛ ولذلك قال المنْصُور
لابنه المهدي:
[ قد هيَّأت لك شيئًا، فإذا أنا متُّ فادع من أخذتُ ماله فاردده عليه،
فإنك تُسْتَحْمد بذلك إليهم وإلى العامة. ففعل المهدي ذلك ]
العصر الأندلسي:
وكان قضاء المظالم قد عُرف في الأندلس باسم "خُطَّة المظالم" التي
ظهرت في وقت مبكِّر منذ الدولة الأموية في الأندلس، لكن لم تتَّضح
واجباتها إلا في عصر الخلافة في القرن الرابع الهجري.
وقد مرَّت خُطَّة المظالم في المغرب والأندلس بتطور يختلف عن مثيلتها
في الشرق الأموي والعباسي؛ إذ كانت أقل منزلة من رتبة
"قاضي الجماعة"، أو ما يُسمى في المشرق بـ"قاضي القضاة"،
ولم يَلِ هذه الوظيفة من الأمراء والخلفاء في الأندلس والمغرب إلا القليل
منهم؛ ولذلك كان المتَوَلُّون لهذه المهمة من الفقهاء والعلماء الراسخين،
ومن أشهر من تولَّى المظالم في إفريقية محمد بن عبد الله (ت 398هـ)
الذي قال في حقه ابن عذارى:
[ كانت وطأته اشتدت على أهل الريب والفساد، بالضرب والقتل
وقطع الأيدي والأرجل، لا تأخذه فيها لومة لائم ]
وبلغت شهرة ومكانة بعض مَنْ وَلِيَ خطة المظالم في الأندلس درجة عالية
بين الخاصة والعامة، وترقى بعضهم في المناصب الإدارية العليا في الدولة،
فهذا أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس قد تقلَّد خطة
المظالم بعهد المنصور محمد بن أبي عامر ؛ فكانت أحكامه شدادًا،
وعزائمه نافذة؛ وله على الظالمين سَوْرة (سطوة وقوة ) مرهوبة،
وشارك الوزراء في الرأي؛ إلى أن ارتقى إلى ولاية القضاء بقرطبة،
مُجْمِعًا إلى خُطة الوزارة والصلاة؛ وقلَّ ما اجتمع ذلك لقاضٍ
قبله بالأندلس.
عصر الولاة:
واهتمَّ كثير من ولاة المسلمين بالنظر في المظالم كما كان الحال مع الخلفاء؛
فقد كان كافور الإخشيدي يجلس للمظالم يوم السبت من كل أسبوع،
واستمرَّ على هذه العادة إلى أن توفي ، وكذلك كان دأب أمراء السلاجقة ،
فقد خَصَّص الأمير طغرلبك يومين من كل أسبوع للنظر في المظالم،
وكانت هذه عادة ملوكهم ، وكان الملك الْعَزِيز في الدولة الأيوبية
يجلس للمظالم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع.
عصر المماليك:
وقد اهتمَّ المماليك بولاية المظالم، وعَيَّنُوا لها خيار القضاة والفقهاء،
ولم يمنع ذلك من نظرهم في بعض المظالم، فقد ذكر المقريزي
في حوادث عام (661هـ) أن رجلين من أهل الإسكندرية قدما
على سلطان مصر ركن الدين بيبرس البندقداري (ت 676هـ)
أحدهما يقال له ابن البوري، والآخر يُعرف بالمكرم بن الزيات،
ومعهما أوراق تتضمن استخراج أموال ضائعة، فاستدعى السلطان
في يوم الثلاثاء سادسه الأتابك والصاحب والقضاة والفقهاء، وأُمِرَتْ فقُرِئت،
وصار كلما ذُكِر له باب مظلمة سدَّه، ويعودُ على المذكورين بالإنكار،
حتى انتهت القراءة.
فقال: اعلموا أني تركتُ لله تعالى ستمائة ألف دينار من التصقيع
والتقويم والراجل والعبد والجارية وتقويم النخل، فعوَّضني الله من الحلال
أكثر من ذلك، وطلبت جرائد الحساب فزادت بعد حطِّ المظالم جملة،
ومن ترك شيئًا لله عَوَّضه الله خيرًا وأمر بإشهار ابن البوري .
ففي هذا الموقف، نجد أن السلطان يُحاسب معظم أجهزة الدولة؛
هم: وزير الحربية، ورئيس الوزراء، والمؤسسة القضائية،
وكذا الفقهاء على تقصيرهم في ضياع أموال الرعية،
ويُذَكِّرهم بأنه ترك لله تعالى آلاف الدنانير التي ارتأى أنها لم تكن من حقِّه،
حثًّا لهم على الحفاظ على الأموال، بل يعزل السلطان أحد الرجلين
اللذين أتيا إليه بهذه الأوراق، ويأمر بإشهاره وفضحه في القاهرة؛
لأنه لم يُعلم السلطان بهذه الواقعة في وقتها.
وكان كثير من سلاطين المماليك يذهبون إلى الميادين العامة لقضاء
مظالم الرعية؛ فكان منهم سيف الدين برقوق (ت 801هـ)، ففي حوادث
عام (792هـ) يذكر المقريزي أن برقوق قد جلس بالميدان تحت القلعة
للنظر في المظالم والحُكْم بَيْنَ الناس على عادته، فهرع الناس إليه،
وأكثروا من الشكايات، فكثر خوف الأكابر وفزعهم، وترقَّب كل منهم
أن يُشْتَكى إليه.
إن نظر الخلفاء والأمراء في المظالم على مدار تاريخ الحضارة الإسلامية،
ليُؤَكِّد على أن كل الناس تحت طائلة القانون والمحاكمة إذا أخطئوا،
لا ميزة في ذلك لطائفة الحكام والأمراء على من سواهم؛
فمعاقبة الأمراء وقادة الجند والولاة والوزراء وكبار رجال الدولة بمن فيهم
الخليفة نفسه، لتؤكد لنا على نزاهة ورفعة الحضارة الإسلامية،
ولم تكن الحضارات كالفارسية والرومانية، أو حتى في العصور الحديثة
كمحكمة العدل الدولية، لتُضارع أو تشابه عمل ولاية المظالم في حضارتنا
الإسلامية الخالدة، التي كانت تأخذ على يد الظالم دون محاباة،
أو تكيل بمكيالين، كما في عصرنا هذا!
وبعدُ، فإننا لن نستطيع أن نجمع كل ما تميزت به المؤسسة القضائية
في الحضارة الإسلامية في فقرات قليلة، أو وريقات متعددة،
فلا ريب أن هذا غمطٌ للحق، وبُعْدٌ عن جادَّة الصواب،
ولكن تلك المواقف الرائعة التي أتينا بها ما هي إلا دليل على فيض
هذه المؤسسة العريقة من المواقف والنظريات،
التي سنَّت للمؤسسات الدستورية والقانونية في العالم المعاصر
الأسس العامة، والمنهجية السليمة للتعامل في هذا السبيل المهم

رد مع اقتباس