ومن جهة أخرى فيُخشى أن تكون حال من يقرأ ويحفظ دون تدبر
كحال من سبقنا من الأمم التي عاب الله عليها مثل ذلك .
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ }
قال ابن عاشور رحمه الله :
( قيل : الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها
ويدرسونها لا يفقهون منها معنىً كما هو عادة الأمم الضالة إذ
تقتصر من الكتب على السرد دون فهم )
وأما الاكتفاء بالتلاوة دون عمل وهو من لوازم التدبر فمصيبة
وقد مثَّل الله عز وجل في القرآن الكريم لمن يحمل العلم ولا ينتفع به
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى
الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
فيخشى على من قرأ القرآن ولم يتدبره ويتأثر به ويعمل به أن يلحقه
إن من تدبر القرآن الكريم حق التدبر حصَّل من المنافع والمصالح
الدنيوية والأخروية ما لا يعلمه إلا الله ،
ومن أعظمها ما ذكره العلامة السعدي رحمه الله بقوله :
( من فوائد التدبر لكتاب الله : أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين
والعلم بأنه كلام الله لأنه يراه يصدق بعضه بعضاً ويوافق بعضه
ولهذا لم ينته إخواننا من الجن إذ سمعوه حتى قالوا :
{ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِه }
{ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ }
وما هذا إلا لشدة تأثرهم النابع من التدبر والتفكر .
وقد قال ابن القيم رحمه الله كلاماً يكتب بماء الذهب قال :
(ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر
القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته )
وصدق رحمه الله فإن التدبر في كتاب الله مفتاح كل خير ومغلاق كل
(تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف وبه يستنتج كل خير
وتستخرج منه جميع العلوم وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ
شجرته . فإنه يعرِّف بالرب المعبود وما له من صفات الكمال وما
ينزه عنه من سمات النقص ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة
أهلها وما لهم عند القدوم عليه .
ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة والطريق الموصلة إلى
العذاب وصفة أهلها وما لهم عند وجود أسباب العقاب . وكلما ازداد
العبد تأملاً فيه ازداد علماً وعملاً وبصيرة)
جعلنا الله والقارئين وجميع المسلمين ممن يتلون القرآن الكريم حق
تلاوته ويتبعون التلاوة بالتدبر والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه .