مرة قال لي شخص يمشي في الحريقة:
أريد أن أستشيرك استشارة, قال لي: خطب ابنتي شخص,
لا يوجد عنده مشكلة أبداً؛ هناك معمل باسمه, وسيارة باسمه،
لكن دينه رقيق, ماذا أفعل يا أستاذ؟
قلت له: الله عز وجل قال :
{ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ }
[سورة البقرة الآية:221]
والله ليس ديناً كثيراً, يبدو هناك ضغط عليه داخلي, فزوجها,
بعد سبعة عشر يوماً طلقها.
الله عز وجل يمتحن الإنسان دائماً في الدنيا :
البطولة أن تحسن الاختيار, ودائماً الاختيار صعب, والله عز وجل يمتحننا,
نحن مبتلون في الدنيا:
{ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ }
[سورة المؤمنون الآية:30]
{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }
[سورة الملك الآية:2]
حتى يمتحننا, دائماً الخيار صعب.
مثلاً: لو خيرتك بين دراجة وسيارة, لن تجد صعوبة في الاختيار,
تختار السيارة, أنا أريد أن قدم لك هدية, تحب سيارة أم دراجة؟
لا تتردد ثانية في قبول السيارة, لكن أحياناً يكون الخيار صعباً,
شيء تركبه في وقت محدد, وشيء تتملكه, أختار التملك؛
لكن التملك أقل من الشيء المحدود.
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى }
[سورة الأعلى الآية:14]
{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }
[سورة الأعلى الآية:15]
{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }
[سورة الأعلى الآية:16]
{ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
[سورة الأعلى الآية:17]
سحرة فرعون وقفوا منه موقفاً لا يصدق :
الآن: سحرة فرعون وقفوا موقفاً لا يصدق, كلمة فرعون الآن ليس لها قيمة
بعدما مات ومضى على موته ستة آلاف سنة, أما عندما كان فرعون حياً
وأنت أحد رعاياه, فكلمة ( ف ) ترتعد الفرائص منها, قال لهم:
{ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ
وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ }
[سورة طه الآية: 71-72]
يدك وما تعطي.
{ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }
[سورة طه الآية:72]
{ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
[سورة طه الآية:73]
موقف يهد الجبال, طبعاً الناس يخافون, لم يخافوا.
الإنسان يشقيه اختياره ويسعده اختياره :
الحسن البصري أدى رسالة العلماء, كان في عهد الحجاج, أدى الرسالة,
وبيَّن و لم يصمت, فلما بيّن, وبلغ الحجاج ما قال فيه،
قال: يا جبناء, والله لأروينكم من دمه, فأمر بقتله -قضية سهلة جداً-
فجاء بالسياف, والسياف مد النطع استعداداً لقطع رأس الحسن البصري,
فلما جيء به لقطع رأسه, ورأى السياف, ورأى كل شيء جاهزاً,
علم أنه منته, فدعا الله عز وجل, بدعاء لم يفهمه أحد, فإذا بالحجاج يقف له,
ويستقبله, ويقول له: أهلاً بأبي سعيد, أنت سيد العلماء؛ ويسأله
ويستشيره, ويضيفه, ويعطره, ويشيعه إلى باب القصر, من الذي صعق؟
السياف, والحاجب,
تبعه الحاجب قال له: يا أبا سعيد ! لقد جيء بك لغير ما فعل بك,
فماذا قلت لربك وأنت داخل؟ قال له:
قلت: يا ملاذي عند كربتي, يا مؤنسي عند وحشتي, اجعل نقمته عليّ برداً وسلاماً,
كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
فالإنسان يشقيه اختياره, ويسعده اختياره.
تصور إنساناً جالساً في خيمته, في معسكر المشركين,
رجل من زعماء غطفان, من أكابر غطفان, جاء مع قومه,
ليقاتل النبي في معركة الخندق, جالس في الخيمة مساء,
يبدو أنه لم يستطع أن ينام, عانى من الأرق ما عانى, فخاطب نفسه, -
هذا الحوار الذاتي أحياناً هو سبب سعادتك-, قال: يا نعيم, أنت رجل عاقل,
ما الذي جاء بك إلى هنا؟ جئت لتقاتل هذا الرجل؟
ماذا فعل هذا الرجل حتى تأتي لتقاتله ؟
إنه لم يسفك دماً حراماً, ولم يغتصب مالاً, ولم ينتهك عرضاً,
وحوله رجال صالحون, أيليق بك أن تأتي من بلاد بعيدة لتقاتل
هذا الرجل وأنت العاقل؟ -حوار ذاتي, رأى نفسه خاطئاً-, وقف من توه,
توجه إلى معسكر المسلمين, ودخل على النبي -عليه الصلاة والسلام-,
فالنبي يعرفه, قال له: نعيم!! ما الذي جاء بك إلى هنا؟
قال له: جئت لأسلم, جئت لأشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله,
موقف ضعاف الإيمان من الله و رسوله :
{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً }
[سورة الأحزاب الآية:12]
أحياناً الإنسان يقول لك: أين الله؟ يجد المسلمين معذبين, مقهورين,
والأغنياء قوة, وقال: سيطرة عنجهية, تصرف وحشي, وتصريحات كلها
غطرسة, ويقول لك: أين الله عز وجل؟ لماذا لا ينصرنا؟ قال:
{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً }
[سورة الأحزاب الآية:11]
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }
[سورة الأحزاب الآية:23]
فالله عز وجل نصرهم, وأعطاهم.
حكمة الإنسان تظهر في حسن اختياره :
هنا محور الدرس اليوم: حكمتك تظهر في حسن اختيارك؛
وقد تختار الشيء الناعم الكثير, فتزل به القدم, وقد تختار الشيء الخشن
القليل, فتسعد به, وترقى إلى أبد الآبدين, قد تختار حرفة دخلها كبير,
لكنها لا ترضي الله عز وجل؛ مبنية على معصية, مبنية على إيذاء الناس,
وقد تختار حرفة دخلها قليل, لكنها ترضي الله.
فالبطولة أن تكون مع الله, والاختيار في حد ذاته بطولة,
والاختيار لن يكون سهلاً.
أحياناً إنسان تقع مشكلة بين زوجته وأمه؛ الأم غالية, والزوجة غالية,
فالخيار صعب, لو كان خياراً سهلاً لا يوجد مشكلة أبداً,
لا يوجد تردد, أما الخيار فدائماً صعب.
تجد مع المعصية هناك دخل كبير, مع المعصية هناك عز,
أحياناً مع المعصية هناك شعور بالأمن, ومع الطاعة هناك خوف أحياناً.
فعندما يوقن الإنسان أنه ما من إله إلا الله, وكل اختيار طيب،
تكون العاقبة له.
العاقل من يختار الشيء الصحيح مهما كانت الظروف المحيطة به :
انظر الآن الله عز وجل قال:
{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ }
[سورة آل عمران الآية:12]
الكافر تجده يمشي بالعرض, لكن الله قال:
{ سَتُغْلَبُونَ }
[سورة آل عمران الآية:12]
أو انظر إلى الذين عارضوا النبي -عليه الصلاة والسلام-,
هم في مزبلة التاريخ, انظر إلى الذين نصروه, هم أعلام, في أعلى عليين.
فأنا عندما أختار اختياراً صحيحاً لا تهمني الظروف المحيطة بي.
شخص يحمل شهادة عليا, ويعمل في مهنة راقية جداً, في قصر العدل,
وجد أن الدخل مشبوه, والحرفة مبنية على سلوك لا يرضي الله عز وجل,
ترك وفتح بقالية, والآن هو في بحبوحة كبيرة, العملية ليست سهلة.
مثلاً: الإنسان إن وقع في مشكلة فهو أعمى, يقول لك: مئة ألف أول دفعة,
لتعمل مذكرة صغيرة, مئة ألف ثانية, مئة ألف ثالثة, مئة ألف رابعة,
وأنت تعلم أن الدعوى لا تنجح إطلاقاً, لا يوجد أمل بنجاحها,
بالمليون واحد, لكن هو الغرقان, يريد قشة يتعلق بها ليستغله.
بعض الحرف يستغلون الوضع النفسي الصعب للإنسان؛
قد يكون ابنه في سجن, أو في أمن اقتصادي, أو عليه مشكلة, يقول له:
أريد نصف مليون, والله!
القاضي بطنه كبير, رأساً يتهم بالقاضي, والقاضي قد يكون بريئاً
من هذا الشيء, فالنتيجة يأتيه دخل كبير جداً.
هناك شخص بنى ثروة طائلة, يأتي لعند شخص عنده مستودعات,
يقول له: والله! رأيت على طاولة فلان مذكرة مداهمة لمستودعاتك انتبه,
مسكين, يجعله يعمل حوالي عشرين يوماً في الليل والنهار,
يستأجر مستودعات ثانية, ينقل كل بضاعته، والقصة ليس لها أصل,
بعد ذلك: يقول له: والله أنا أستطيع أن ألغي الموضوع كله,
لكني أحتاج إلى مليون ليرة, أصحاب الأمر ليس لهم علاقة, هو ذكي جداً؛
بنى ثروة طائلة, لكن بعد ذلك لقي نتيجة عمله بشكل مخيف,
الجاهل عدو نفسه.
فدائماً: اختر الاختيار الصحيح بكل شيء؛ لو كان خشناً, لو كان دخله قليلاً,
لو كانت الزوجة درجة ثانية؛ اختر الإيمان, اختر شيئاً يقربك من الله,
وابتعد عن شيء يبعدك عن الله
والحمد لله رب العالمين
لفضيلة الشيخ : محمد النابلسي
جزاه الله عنا كل خير
في الله اخوكم ,, مصطفى الحمد