[ يا حَمَلَةَ العلم! اعْمَلُوا بِهِ، فَإِنَّمَا العَالِمُ مَنْ عَمِلَ... ]
ويليها ذِكْرُ غُرْبَةِ أصحاب الحقّ في النّاس؛ إذ يكون تسعةُ أعشارهم
من يُنكِرُ الحقَّ ويَتَنَكَّرُ له إذا سمعه، ويَصِمُّ عنه إذا أُبلِغَهُ!
ولا يُذعِنُ للحقِّ وينقادُ له ويقفُ عندهُ إلاّ القليل،
وهذا تصديقُ قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
( طُوبَى للغرباء. قيل: ومن الغرباء يا رسول الله ؟
قال: ناسٌ صالحون قليلٌ في ناسِ سوءٍ كثير،
من يَعصيهم أكثرُ ممّن يُطيعهم )
وقد جاء في إحدى نسخ «الزّهد» لوكيع قوله:
[ يُنكرُ العلم تسعة أعشارهم ]
[ لا يعرفُ فيه تسعة عشرائهم المعروف ]
فأولئك الكثيرُ جَمَعُوا جهلاً وهوىً، فهُم يقولون ما لا يعملون،
وتُخالفُ أقوالُهم أعمالَهم،
ولذا أَوْرَدَهُ وكيعٌ في:
[ باب من يُخالفُ قولُهُ عَمَلَهُ ]
وكفى ذلك الزّمان شرًّا أن يكون هذا حال أكثرِ أهلِهِ،
روى ابن وضّاح في «كتاب البدع»(رقم:210) بإسنادٍ صحيح
[ أدركتُ النّاسَ وهم يعملونَ ولا يقولون، فهم اليومَ يقولون ولا يعملون ]
ثمّ ذَكَرَ عليٌّ سبيلَ النّجاة من شرِّ ذلك الزّمان وشَرَرِ فِتَنِه، فقال:
« لا ينجو منه إلاّ كلّ نُوَمَةٍ »،
« إلاّ كلُّ مؤمنٍ نُوَمة »،
والمعنى: الإرشادُ إلى الصّمت، فإنّ من يصمُت لا يُعرَف في الفتنة،
بخلافِ من رفع عقيرتَهُ وطارَ بكلِّ مَطَارٍ كلامُهُ، ولأنّه لم يخُض فيها
فهو خاملُ الذِّكر، قيلَ عنهُ كأنّه مرَّتْ عليهِ وهو نائمٌ عنها،
قال: قيلَ لعليّ بن أبي طالب: ما النُّوَمة؟
قال: الرّجلُ يسكتُ في الفتنةِ فلا يبْدُو منهُ شيءٌ .
أمّا من يحظى بهذه المنقبة، ويظفر بهذه المَحْمَدَة، منقبةِ النّجاة
ومحمدةِ السّلامة، فهم المُسْتَمْسِكُونَ بالعلم والهدى الّذي
جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله عزَّوجلَّ،
أنار طريقهم وثَبَّتَ خطاهم،
قال: أولئك أئمّةُ الهدى ومصابيحُ العلم
وقد نفى عليٌّ عن هؤلاء النّاجين ثلاثةً من الأوصاف، وبرَّأَ هؤلاء السّالمين
من الفتن بعد اعتصامهم بالعلم والعمل من معائبَ ثلاثة ومزالق:
الأولى: ليسوا بعُجُل، والعُجُل جمع عجول، مأخوذٌ من العَجَلة،
والإسراع في الأمور من غير تثبُّتٍ ولا رَوِيّةٍ ولا أناة،
والّذي يهدي إليه العلم، ويُثبِّتُهُ العملُ به، ويُثمِرُهُ في صاحبِه: خُلُقُ التَّأَنِّي،
وقد امتدحه النّبيُّ صلى الله عليه وسلم وعابَ ضدّهُ بقوله:
( التّأنِّي من الله والعجلةُ من الشّيطان )
وقال صلى الله عليه وسلم لأشجِّ بن عبد القيس:
( إنّ فيك خصلتين يُحبُّهما اللهُ ورسولُه: الحِلْمُ والأناةُ )
وفي معنى التّأنِّي التُّؤَدَةُ، وهي التّمهُّل والتَّرَزُّن والتّثبُّت وعدمُ الاندفاع
روى ابن وضّاح في «كتاب البدع» (رقم:247) بإسنادٍ صحيح
[ إنّها ستكونُ أمورٌ مشتبهةٌ، فعليكم بالتُّؤَدَة،
فإن يكنِ الرّجلُ تابعًا بالخير خيرٌ من أن يكون رأسًا في الشّرّ ]
والثّانية من الأوصاف غيرِ المرغوب فيها أيّامَ الفتن،
بل وقبلها ممّا يكونُ بين يديها: ألاّ يكونوا مَذَايِيع، والمذاييع جَمْعُ مِذْيَاع،
وهو المرءُ إذا أذاعَ الشّيءَ، أي: أَفْشَاهُ ونَشَرَهُ، ولا ينبغي لمسلمٍ
أن يُذيع كلّ ما يسمعُهُ وينشُرَ كلَّ ما يُخبَرُ به أو يُخبَرُ عنه،
وأين النّاس من أدب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأمّته:
( كفى بالمَرْءِ إِثْمًا أو قال: كذبًاـ أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمع )
[رواه مسلم في مقدّمة «الصّحيح» وأبو داود].
والثّالثة:ألاّ يكونوا بُذُرًا، يُقال قومٌ بُذْرٌ، والواحِدُ بَذُور،
وهو الّذي يُظهِرُ ما يسمعُه، ويُقال: بذَرْتُ الكلامَ بين النّاس كما تُبْذَرُ الحُبُوب،
أي: أَفْشَيْتُهُ وفرَّقْتُهُ، قال أبو محمّد الدّارمي بعد روايته الأثر:
« المذَايِيع البُذْر: كثيرُ الكلام »، وجاء عنده:
وهم الّذين يمشون بالشّرّ، وهو في المعنى قريبٌ ممّا مضى.
وقد صحَّ هذا الأثرُ عن عليٍّ عند البخاريّ في «الأدب المفرد»(رقم:327)،
بلفظٍ مقاربٍ وفي آخره زيادة، قال:
« لا تكونوا عُجُلاً مذاييعَ بُذْرًا، فإنَّ من ورائكم بَلاَءً مُبَرِّحًا مُبْلِحًا،
وأُمُورًا مُتَمَاحِلَةً رُدُحًا ».
وقوله: « مُبَرِّحًا »، أي: بلاءً شاقًّا شديدًا، وقوله « مُبْلِحًا »،
أي: مُعْيِيًا، يُعْيِي النّاس، ومنه بلح الجملُ إذا أعْيَا وانقطع وأبلحَهُ السَّير،
وفي بعض الطّرق: « مُكْلِحًا »، أي: يُكلِحُ النّاسَ لشدّتِهِ، وقوله:
« أُمُورًا مُتماحلةً »، أي: فتنًا طويلةَ المدّة، وقوله « رُدُحًا »،
أي: ثقيلةً عظيمة، ويقال الجمل الرَّداح: الثّقيل الحِمْل.
ويُستفادُ من هذا الأثر: أنّ تلكم المنهيّات التّي ترجعُ إلى التَّكَلُّم ونشر الكلام
وتفريقه وإذاعته، هي من مُسبِّبات الفتن ومن مُمَهِّداتِها
وممّا يكونُ بين يديها ويُقرِّب منها ويُوصِّلُ إليها،
فكان من نُصْحِ عليّ رضي الله عنه ما مُحصِّلُهُ:
لا تستعجلُوا في إذاعة الأشياء وإفشائها وإظهارها وتفريقها في النّاس،
فهُناكَ بلاءٌ شديدٌ ينتظِرُكُم، وفتنٌ ثقيلةٌ تَتَرَقَّبُكُم، فلا تُسْهِمُوا في صُنع الفتن
والرّزايا، فإنّه لا طاقةَ لكم بحملها؛ إذ تنقطع ظهوركم،
بل تنقطع أعناقكم دُونَها، ومن اسْتَشْرَفَهَا اسْتَشْرَفَتْهُ،
واللهُ خيرٌ حافظًا وهو أرحمُ الرّاحمين.
شبكة الآجري