من فهم الآيات فهماً معكوساً شقي بهذا الفهم :
أحياناً تفهم بقوله تعالى:
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }
أي الله عز وجل لا يغوي, لكن هنا معنى الآية: الإنسان إذا أصر على شيء,
وتمناه, وصار أعمى, أصماً, لا يرى غير هذا الشيء؛
فلحكمة بالغة بالغة الله عز وجل يطلقه لهذا الشيء, كي ينتهي من بغضه,
فأكثر الآيات لو فهمها الإنسان فهماً معكوساً لشقي بهذا الفهم,
أما لو فهمها فهماً صحيحاً لسعد بهذا الفهم، لذلك:
{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آَتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً }
{ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ }
هذا إكرام من الله كبير جداً, أن تتقن فهم النصوص, فهم النص دقيق جداً,
النص بين أيدي الناس جميعاً.
ما كل ما يُعلم يُقال وما كل ما يُقال له رجال :
{ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا }
إذا كان الإنسان ضعيفاً في اللغة, يفهم أن الله عز وجل خلق فيه الغفلة,
ما ذنبه إذا خلق الله فيه الغفلة؟ أما حينما أعلم أن أغفل بمعنى وجده غافلاً,
وقد قيل: عاشرت القوم فما أجبنتهم -ما وجدتهم جبناء-,
وعاشرتهم فما أبخلتهم -ما وجدتهم بخلاء-:
{ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطا }
[ سبعة أشياء في سبعة مواضع هن ضائعات: حكيم بين الجهال,
لا يستمعون حكمته, ولا يحفظون حرمته, وسراج في ضوء الشمس,
وطعام طيب يُقدم إلى سكران, وصاحب صوت حسن, يغني بين أهل المقابر،
وكلام لين تُكلم به صاحب حقد وحسد, أشياء ضائعة في أشياء ]
قال: من يضع المرهم على موضع الجرح والألم, ويشد موضع الكسر,
ولا يسقي الشربة إلا لمن نظف بطنه واحتمى،
وللحكيم نور يمشي بين جنبيه, فإذا ما أجاب عن كل ما يُسأل,
هناك ندوة أقيمت في محطة فضائية عن العلاقات الزوجية,
بلغت الإساءة بها حداً غير معقول, انطلاقاً من هذه الحكمة الرائعة:
"ما كل ما يُعلم يُقال"، أشياء دقيقة جداً, تفاصيل دقيقة جداً جداً
بثت على الفضاء, وسمعها الناس جميعاً؛ وصار هناك هجوم شديد
على الإسلام، و نقد شديد، كل شيء يُقال هكذا؟!
"ما كل ما يُعلم يُقال, وما كل ما يُقال له رجال, ولا إذا وجد الرجال
أي هناك شيء لا يقال أبداً, و هناك شيء يقال؛ ولكن لغته محدودة.
الانضباط هو أكبر نشاط للإنسان :
يأتي الآن سؤال يتعلق بالعلاقة الزوجية, هل يعقل أن تجيب عنه أمام
ألفي شخص نصفهم غير متزوج؟ نصفهم صغار؟ نصفهم كبار؟!
مستحيل, أما لو سألك سؤالاً: تجيبه:
"ما كل ما يُعلم يُقال, وما كل ما يُقال له رجال".
وهذا الذي يقال لفئة محددة لا يقال في كل الأوقات, في وقت معين,
وفي ظرف معين، فحينما يلقى كل شيء هكذا على الهواء,
هناك مجلة في مصر ذات ميول إلحادية, تناولت هذه الندوة بنقد,
وصل النقد إلى الإسلام, والحق معهم, هل يعقل أمور تفصيلية, حماقات,
أشياء مستحيل أن تقرأها أنت أساساً, مستحيل أن تسمعها من شخص,
بثت هكذا!؟ سمعها ملايين مملينة.
فقضية الحكمة أن تعرف ماذا يُقال, ومع من يقال, وبالقدر الذي ينبغي,
وفي الوقت الذي ينبغي, والإنسان أكبر نشاط له هو الانضباط:
( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً )
أي أن تعيش مع مؤمن سنوات, وسنوات, وسنوات,
لا تسمع منه كلمة خاطئة, كلمة فاحشة, تعليق ساخر,
هذا كله من نتائج الإيمان, صار هناك ضبط.
الآن: تجد المجتمعات كلها مفككة على مستوى الأسر,
على مستوى الأحياء, على مستوى الأقارب, هناك كلام غير منضبط
على مستوى الأسرة الواحدة؛ خصومات بين الزوجين لا تنتهي
من عدم الانضباط, كلمة قاسية, تهكم على أهلها, ردت عليه بكلمتين
قاسيتين, صار هناك مشكلة، فالإنسان حينما يضبط لسانه كما
( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه,
ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه )
لعلنا أطلنا عليكم في موضوع الحكمة, هذا آخر درس في موضوع الحكمة,
يجب أن تعتقد أن أثمن عطاء تناله من الله عز وجل أن ترزق الحكمة.
مثلاً: إنسان يقدم لك باقة ورد, بعد يومين ذبلت,
وضعتها في سلة المهملات, إنسان يقدم لك قطعة أثاث, يقدم لك شيئاً,
أما لو قدم لك شيكاً مفتوحاً بالمال, تشتري كل شيء؛ تشتري بيتاً, وسيارة,
وأثاثاً, وطعاماً, وشراباً, وثياباً, وتسافر, هذا المال قيمة مطلقة,
والشيك مطلق, مُوقّع, لكن هذا العطاء رأيت قصراً, ثمنه مئتا مليون,
معك شيك مفتوح فتشتريه, وجدت سيارة لا يوجد مثلها في العالم,
تشتريها رأساً, أنت معك شيك مفتوح, هذه الحكمة.
لعلك تعطيه باقة ورد, بعد يومين تذبل, يضعها في سلة المهملات,
تعطيه مثلاً قميصاً يلبسه, فيهترئ بعد فترة من الزمن,
فأي عطاء آخر غير الحكمة له أمد, إلا الحكمة عطاء مستمر,
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً }
فتجد الإنسان سعيداً في أي وضع.
تكلمت البارحة في درس الجمعة: قد تسعد بأخشن طعام, وقد تسعد
بأضيق مكان, وقد تسعد ومعك أمراض, وقد تشقى و أنت تأكل أطيب الطعام,
وتشقى و أنت ساكن في قصر منيف, و تشقى وأنت يتمتع بكل القوة
والشباب، فالشقاء والسعادة متعلق بالقرب من الله عز وجل,
{ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً }
لفضيلة الشيخ : محمد النابلسي
في الله اخوكم مصطفى الحمد