ولما شبَّ الفتى البكري, كان قد حفظ كتاب الله تعالى،
وأخذ عن عمته عائشة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم,
ما شاء له أن يأخذ، ثم أقبل على الحرم النبوي الشريف،
وانقطع إلى حلقات العلم التي كانت تنتشر في كل ركن من أركانه،
فروى عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن عبد الله بن عمر،
وعن عبد الله بن عباس، وعن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن خبَّاب،
ورافع بن خديج، وأسلم مولى عمر بن الخطاب، وغيرهم وغيرهم ،
أي تلقَّى العلمَ عن كبار العلماء في عصره، حتى غدا إماما مجتهدا،
وأصبح من أعلم أهل زمانه بالسنة،
وكان الرجلُ لا يُعدُّ رجلا عندهم حتى يتقن السنة،
لأن السنة فيها تبيان للقرآن الكريم، وربُّنا عز وجل حينما حفظ كتابه،
قال العلماء: إن حفظ السنة من لوازم حفظ الكتاب،
لأن السنة مبيَّنة للكتاب .
ولما اكتمل لهذا الشاب البكري العلمُ, صار معلِّما،
قالوا: تعلَّموا قبل أن ترأسوا، فإن ترأستم فلن تعلموا،
فالإنسان في طور البناء الذاتي مهما اجتهد في ترسيخ علمه،
وفي تمكين نفسه من الحقائق الناصعة مع أدلَّتها, فهذا مما يعينه
على العطاء، ولم يمضِ وقتٌ طويل, حتى أصبح القاسمُ بن محمد وابن خالته
سالم, إمامي المدينة الموثوقين، فقد سوَّدهما الناسُ,
لِما كان يتحلَّيان به من التقى والورع، وقد بلغ من مكانتهما في النفوس,
أن خلفاءَ بني أمية وولاتهم, كانوا لا يقطعون أمرا ذا بالٍ في شأن
من شؤون المدينة إلا برأيهما .
ما هو المشروع الذي عقد عليه العزم الوليد بن عبد الملك بقيامه,
وما مضمون الكتاب الذي أرسله إلى عمر بن عبد العزيز,
مرة الوليدُ بن عبد الملك عزم على توسعة الحرم النبوي الشريف،
ولم يكن في وسعه تحقيقَ هذه الأمنيــة الغالية,
إلا إذا هدم المسجدَ القديم من جهاته الأربع، وأزال بيوت
زوجات النبي صلوات الله عليه، وضمَّهما إلى المسجد،
وهي أمورٌ تشقُّ على الناس، ولا تطيب نفوسُهم بها،
فكتب إلى عمر بن عبد العزيز واليه على المدينة, يقول:
[ لقد رأيتُ أن أوسِّع مسجدَ رسول الله صلى الله عليه و سلم،
حتى يصبح مائتي ذراع في مائتي ذراع، فاهدِم جدرانه الأربعة،
وأدخل فيه حجَر زوجات النبي، واشترِ ما في نواحيه من البيوت،
وقدِّم القبلةَ إن قدرت، وإنك تستطيع ذلك لمكان أخوالك آل الخطاب،
فإن أبى عليك أهلُ المدينة ذلك,
فاستعن بالقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر،
وأشركهما معك في الأمر، وادفع إلى الناس أثمانَ بيوتهم بسخاء،
وإن لك في ذلك سلف صدق هم: عمر بن الخطاب،
وعثمان بن عفان اللذان وسَّعا المسجد، فدعا
عمرُ بن عبد العزيز القاسم بن محمد, وسالم بن عبد الله,
وطائفة من وجوه أهل المدينة، وقرأ عليهم كتابَ أمير المؤمنين،
فسُرُّوا بما عزم عليه، وهبُّوا لإنفاذه، فلما رأى أهلُ المدينة عالمي المدينة
وإماميهما الكبيرين, يباشران في هدم المسجد بأيديهما, حتى أقبل الناسُ
على هذا العمل العظيم في توسعة المسجد
لما علِم ملِكُ الروم بعزم أمير المؤمنين بتوسعة المسجد, أحبَّ أن يصانعهم،
و يتقرَّب بما يسرُّه، بعث إليه بمائة ألف مثقال من الذهب،
وأرسل معها مائة عامل من أمهر البنَّائين في بلاد الروم،
كان للمسلمين شأنٌ كبير- .
أراد ملك الروم أن يتقرَّب إلى الخليفة بإرسال هذه الخبرات الفنية مع العمال،
وزوَّد العمالَ بأربعين حِملا من الفسيفساء،
فأرسل الوليدُ هذا كلَّه إلى عمر بن عبد العزيز ليستعين به على البناء,
فأنفذه عمرُ بمشورة القاسم بن محمد ]
مرة هناك أعرابي دخل المسجد, فقال:
أيهما أعلم أنت أم سالم؟ فتشاغل عنه القاسمُ، أعاد عليه السؤال
فقال: سبحان الله ! أعاده مرة ثالثة
فقال له: ذاك سالم يا بن أخي يجلس هناك,
فقال: من في المجلس؟ للهِ أبوه،
لقد كره أن يقول: أنا أعلم منه فيزكِّي نفسَه،
وكره أن يقول: هو أعلم مني فيكذب، وكان أعلمَ من سالم
مرة كان في مِنًى، والناسُ حوله متحلِّقون يسألونه،
فيقول في بعض السؤال: لا أدري ، فأخذهم العجبُ!
فقال لهم: واللهِ ما نعلم كلَّ ما تسألون عنه، ولو علمناه ما كتمناه،
ولا يحلُّ لنا أن نكتمه، ولأنْ يعيش الرجلُ جاهلا بعد أن يعرف
حقَّ الله عليه خيرٌ له من أن يقول لشيء لا يعلم: أعلمه .
القصة مشهورة: إمام دار الهجرة, الإمام مالك, جاءه وفدٌ من الأندلس
معه سبع وثلاثون سؤالا، الوفد قطع شهرين من السفر،
فأجاب عن بعض الأسئلة، وعن البعض الآخر
قال: لا أدري، ما صدَّقوا، الإمام مالك لا يدري،
فقال لهم بأعلى صوته: قولوا لمن في المغرب: الإمام مالك لا يدري،
ونصف العلم: لا أدري، وكلمة لا أدري لا يقولها إلا المتورِّع ،
هذه وسام شرف، أن تقول: لا أدري، أما أن تقول لكل شيء: أدري,
معنى ذلك لا تدري شيئا، لذلك يظلُّ المرءُ عالما ما طلب العلمَ،
فإذا ظنَّ أنه قد علم فقد جهِل .
لحظته الأخيرة من حياة هذا التابعي :
أتاه اليقينُ وهو في سنٍّ متقدِّمة، قصَد مكةَ يريد الحجَّ،
وفيما هو في بعض طريقه, أتاه اليقينُ، فلما أحسَّ بالأجل التفت إلى ابنه،
[إذا أنا متُّ, فكفِّني بثيابي التي كنتُ أصلي بها؛ قميصي، وإزاري،
وردائي، فذلك كان كفنُ جدِّك أبي بكر، ثم سوِّ عليَّ لحدي، والحق بأهلك،
وإياكم أن تقفوا على قبري، وتقولوا: كان وكان، فما كنتُ شيئا ]
فالتواضعُ يتناسب مع بلوغ أعلى مراتب العلم والتقوى،
ودائما الشيء الفارغ له صوت كبير، والشيء المليء صوته خفيٌّ،
فكان هذا التابعي الجليل من أورع التابعين، ومن أشدِّهم علما،
وقد أمضى حياته بهذه الطريقة .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه السيرُ عن التابعين الأجلاَّء
باعثا لنا على طلب العلم، وعلى التخلّق بأخلاق النبيِّ عليه الصلاة السلام،
كما قلتُ في أول الدرس: إذا فاتَ الإنسانَ مجدُ المال، وفاته مجدُ النسب،
وفاته مجدُ الشأن الاجتماعي، فبابُ العلم مفتوحٌ لكل مَن فاتته هذه الأمجادُ،
وبإمكانه أن يصل إلى أعلى المراتب عن طريق العلم .
أختم كلمتي بهذا القول: إذا أردتَ الدنيا فعليك بالعلم،
وإذا أردتَ الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم
اخوكم قي الله مصطفى الحمد