ولهذا الصنف الثاني علامات :
منها أن لا يذعن للحق والدليل إذا ما استبان.
ومنها أن يغالط الحق وأهله.
ومنها أن لا يجرى على سنن السلف الصالح في الاستدلال.
ومنها أنه لا يلتزم بأدب الحوار.
ومنها أن مقصوده إبطال كلام مخالفه لا الوصول إلى الحق والقبول به.
ومنها الطعن في العلماء أهل الحديث والأثر.
ومنها ترك الرجوع إليهم بسبب طعنه فيهم .
في ضوابط الرد على الشبهات :
بحث هذه المسائل وعرضها له عند العلماء ضوابط لابد من مراعاتها،
وذلك أن الشبه في الدين كالأمراض والأوبئة، لا يجوز نشرها بين الناس،
حتى لا يصبح الناس مرضى القلوب!
إذ الشبه من أمراض القلوب!
[ أهرب من صاحب البدعة كهربك ممن به جرب ]
ومعلوم أن الشبهة بريد البدعة، والبدعة بريد الكفر!
1 ) أن لا يورد من الشبه إلا ما هو بين الناس، فتتكلم وتعالج الواقع،
وإلا كان في ذلك المزيد من إحداث البلبلة والفتن التي لا تنبغي
بين المسلمين. وهذا يدل عليه منهج السلف عموماً،
فإذا كانوا يكرهون الكلام في المسائل التي لم تحدث وتنزل فمن باب أولى
قال ابن رجب رحمه الله عند كلامه على حديث أبي هريرة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم
فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )
[ كان كثير من الصحابة والتابعين
يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها ولا يجيبون عن ذلك:
قال عمرو بن مرة : خرج عمر على الناس
فقال: أحرج عليكم أن تسألون عن ما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر لعن السائل عما لم يكن.
وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن شيء يقول: كان هذا؟
فإن قالوا: لا . قال: دعوه حتى يكون.
وقال مسروق : سألت أبي بن كعب عن شيء
فقال: أكان بعد فقلت: لا. فقال: أجمنا يعني أرحنا حتى يكون،
فإذا كان اجتهدنا لك رأينا.
وقال الشعبي : سئل عمار عن مسألة فقال: هل كان هذا بعد؟
قالوا: لا قال. فدعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناه لكم .
وعن الصلت بن راشد قال: سألت طاوسا عن شيء فانتهرني فقال:
أكان هذا؟ قلت: نعم قال: آلله قلت: آلله أصحابنا
أخبرونا عن معاذ بن جبل أنه قال: يأيها الناس لا تعجلوا بالبلاء
قبل نزوله فيذهبكم هاهنا وهاهنا فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله
لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد أو قال وفق ]
2 ) أن لا يتوسع في شرح الشبهة وبسطها في المجلس،
فقد تعلق في قلوب بعض الحاضرين، ويأت الرد ضعيفاً لا يزيلها.
ولذلك نهوا عن مجالستهم بله مخاطبتهم والسماع لكلامهم؛
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
[ لاتجالس أهل الأهواء ، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب ]
[ لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك ]
[ من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث :
وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار.
وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموه، وإني واثق بنفسي،
فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه ]
عن أبي قلابة رحمه الله قال :
[ لا تجالسوا أهل الأهواء و لا تجادلوهم
فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون ]
وقد كانوا يكرهون إيراد علل الحديث والتوسع فيها أمام العامة لما يخشى
[ وقد ذكر أبو داود في رسالته إلى أهل مكة :
" أنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب،
فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا" ]
وهذا كما قال أبو داود ، فإن العامة تقصر أفهامهم عن مثل ذلك،
وربما ساء ظنهم بالحديث جملة إذا سمعوا ذلك .
وقد تسلط كثير ممن يطعن في أهل الحديث عليهم بذكر شيء من هذه العلل.
وكان مقصوده بذلك الطعن في الحديث جملة والتشكيك فيه.
أو الطعن في غير حديث أهل الحجاز، كما فعله حسين الكرابيسي
في كتابه الذي سماه بكتاب المدلسين، وقد ذكر كتابه هذا للإمام أحمد
فذمه ذماً شديداً. وكذلك أنكره عليه أبو ثور وغيره من العلماء.
[ مضيت إلى الكرابيسي وهو إذ ذاك مستور يذب عن السنة
فقلت له: إن "كتاب المدلسين" يريدون أن يعرضوه على أبي عبد الله،
فأظهر أنك قد ندمت حتى أخبر أبا عبد الله.
فقال لي : إن أبا عبد الله رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق،
وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه،
وقال: قد سألني أبو ثور وابن عقيل وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب،
فأبيت عليهم، وقلت: بل أزيد فيه، ولجّ في ذلك وأبى أن يرجع عنه ]
فجئ بالكتاب إلى أبي عبد الله وهو لا يدري من وضع الكتاب،
وكان في الكتاب الطعن على الأعمش والنصرة للحسن بن صالح .
وأما أهل العلم والمعرفة والسنة والجماعة فإنما يذكرون علل الحديث
نصيحة للدين وحفظاً لسنة النبي e، وصيانة لها، وتمييزاً مما يدخل
على رواتها من الغلط والسهو والوهم، ولا يوجب ذلك عندهم طعناً
في غير الأحاديث المعللة، بل تقول بذلك الأحاديث السليمة عندهم لبراءتها
من العلل وسلامتها من الآفات ، فهؤلاء هم العارفون
بسنة رسول الله عليه وسلم حقاً ، وهم النقاد الجهابذة الذين ينتقدون الحديث
انتقاد الصيرفي في الحاذق للنقد البهرج من الخالص ،
وانتقاد الجوهري الحاذق للجوهر مما دلس به .
3 ) أن لا تذكر الشبهة إلا ومعها الرد، بلا إحالة، وقد انتقد بعض العلماء
تفسير الرازي بأنه يأتي بالشبهة نقداً وبالرد نسيئة.
4 ) من منهجهم إذا انتشرت البدعة، وكان لأصحابها شبهاً تعلقوا فيها
بآيات وأحاديث، أن يهتموا بالرد والبيان، دون الدخول في القضايا العقلية
البحتة، وهذا منهم لأن من وظيفة العلماء بيان القرآن والسنة
وإزالة شبه الاستدلال الباطل عنهما، وتعظيماً وتوقيراً لما أوجب الله تعظيمه
وتوقيره، وتزهيداً للناس عن الخوض في الدين بالطرق العقلية
والمناهج الكلامية، فإن احتاجوا لذلك خاضوه ولكن بقدر.
5 ) من منهج السلف الصالح الاهتمام بالكتب التي تبين المنهج العام،
ومن خلال بيانهم للمنهج العام يشيرون إلى رد الشبه، في تراجم الأبواب،
كما تراه بوضوح عند البخاري في صحيحه،
أو بإفراد موضوع بجمع ما فيه من الروايات والأحاديث،
وهذا شأن الكثير من الأجزاء المفردة لأهل الحديث،
فلما حدثت الشبه في القدر أفرد هذا الموضوع بالتصنيف،
ولما حدثت الشبه في النبيذ أفرد موضوع الأشربة بالتصنيف،
ولما حدثت الشبه في مسألة خلق أفعال العباد أفردت بالتصنيف، ... وهكذا.
وهذا يبين أن لرد الشبه في تصانيف السلف ثلاثة طرق:
الأول : من خلال إفرادها بالتصنيف المباشر عنها.
الثاني : من خلال مصنفاتهم العامة في بيان المنهج العام،
كالمصنفات والموطآت، والجوامع والسنن،
فهي تشتمل على تراجم وأبواب في رد الكثير من الشبه.
الثالث : من خلال جمع المرويات في الموضوع وسردها.
وقد يجتمع في بعض المصنفات الرد بهذه الطرق جميعها
أو ببعضها كما تراه في كتاب الشريعة للآجري، وكتاب اللالكائي .
