قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ : وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْأَخْذِ بِالِاسْتِسْعَاءِ إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ
أَبُو حَنِيفَة وَصَاحـِبَــاهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ
وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ، وَآخَرُونَ ،
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ : الْأَكْثَرُ يَعْتِقُ جَمِيعُهُ فِي الْحَالِ وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ
فِي تَحْصِيلِ قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ
وَزَادَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَقَالَ : ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْمُعْتِقِ الْأَوَّلِ بِمَا أَدَّاهُ لِلشَّرِيكِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحْدَهُ : يَتَخَيَّرُ الشَّرِيكُ بَيْنَ الِاسْتِسْعَاءِ وَبَيْنَ عِتْقِ نَصِيبِهِ
، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عِنْدَهُ ابْتِدَاءً إِلَّا النَّصِيبُ الْأَوَّلُ فَقَطْ ،
وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُكَاتَبِ
وَعَنْ عَطَاءٍ يَتَخَيَّرُ الشَّرِيكُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ إِبْقَاءِ حِصَّتِهِ فِي الرِّقِّ
وخَالَفَ الْجَمِيعَ زُفَرُ فَقَالَ : يَعْتِقُ كُلُّهُ ، وَتُقَوَّمُ حِصَّةُ الشَّرِيكِ فَتُؤْخَذُ
إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ، وَتُرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا . انْتَهَى
( وَقَالُوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله تعالى عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
عَنَى حَدِيثَهُ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْبَابِ .
( وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبِهِ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ )
قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ : لَيْسَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ ذِكْرُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا ،
وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِمَا سَبَقَ . انْتَهَى
واسْتُدِلَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله تعالى عنهما الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ ،
وَبِأَحَادِيثَ أُخْرَى ذَكَرَهَا الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ ، وأُجِيبَ مِنْ قِبَلِهِمْ
عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله تعالى عنه بِأَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ فِيهِ مُدْرَجٌ
لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأُجِيبَ مِنْ جَانِبِ الْأَوَّلِينَ
عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما بِأَنَّ الَّذِي يَدُلُّ فِيهِ عَلَى تَرْكِ الِاسْتِسْعَاءِ
هُوَ قَوْلُهُ : وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ . هُوَ مُدْرَجٌ لَيْسَ
مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ : وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحَانِ مَرْفُوعَانِ
وِفَاقًا لِصَاحِبَيِ الصَّحِيحِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مُؤَيِّدَاتٍ لِهَاتَيْنِ الزِّيَادَتَيْنِ :
فَالْوَاجِبُ قَبُولُ الزِّيَادَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي حَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله تعالى عنهم، وَظَاهِرُهُمَا التَّعَارُضُ
وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ ، وَقَدْ جَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ
بِأَنَّ مَعْنَاهُمَا : أَنَّ الْمُعْسِرَ إِذَا أَعْتَقَ حِصَّتَهُ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ
، بَلْ تَبْقَى حِصَّةُ شَرِيكِهِ عَلَى حَالِهَا ، وَهِيَ الرِّقُّ ، ثُمَّ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ
فِي عِتْقِ بَقِيَّتِهِ ، فَيُحَصِّلُ ثَمَنَ الْجُزْءِ الَّذِي لِشَرِيكِ سَيِّدِهِ وَيَدْفَعُهُ إِلَيْهِ
وَيَعْتِقُ وَجَعَلُوهُ فِي ذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ
قَالَهُ الْحَافِظُ : وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ لِقَوْلِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ
. فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ بِأَنْ يُكَلَّفَ الْعَبْدُ الِاكْتِسَابَ وَالطَّلَبَ حَتَّى
يُحَصِّلَ ذَلِكَ لَحَصَلَ لَهُ غَايَةُ الْمَشَقَّةِ ، وَهِيَ لَا تَلْزَمُ فِي الْكِتَابَةِ بِذَلِكَ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَهَذِهِ مِثْلُهَا
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : لَا يَبْقَى بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْجَمْعِ مُعَارَضَةٌ أَصْلًا
قَالَ الْحَافِظُ ، وهُوَ كَمَا قَالَ إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَبْقَى الرِّقُّ فِي حِصَّةِ
الشَّرِيكِ إِذَا لَمْ يَخْتَرِ الْعَبْدُ الِاسْتِسْعَاءَ ، فَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي الْمَلِيحِ
يَعْنِي : بِحَدِيثِهِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْ أَبِيهِ رضى الله تعالى عنهما
أَنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِنَا أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ
فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ خَلَاصَهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ
وَقَالَ لَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَرِيكٌ
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وفِي لَفْظٍ : هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ ، رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَلِأَبِي دَاوُدَ مَعْنَاهُ
قَالَ الْحَافِظُ : وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ غَنِيًّا ، أَوْ عَلَى مَا إِذَا
كَانَ جَمِيعُهُ لَهُ فَأَعْتَقَ بَعْضَهُ . انْتَهَى
وفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، فَإِنْ شِئْتَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ