فَتَبَيَّنَ لَكَ يا طَالِبَ الْحَقِّ
أَنَّ كَلامَ اللهِ الَّذي هُوَ صِفَتُهُ لَيْسَ كَكَلامِ الْعَالَمِينَ
إِنَّمَا هُوَ كَلامٌ وَاحِدٌ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ لُغَةٌ أَوْ حَرْفٌ أَوْ صَوْتٌ
وَأَنَّ الْقُرْءَانَ الْكَرِيمَ وَسَائِرَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلى الأَنْبِيَاءِ
هِيَ عِبَارَاتٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ وَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ
أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ قَرَأَ الْقُرْءانَ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا يَقْرَأُ الأُسْتَاذُ عَلى التَّلْمِيذِ
إِنَّمَا الَّذي قَرَأَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِما السَّلامُ
وَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى اللهُ نَاطِقًا إِنَّمَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا
فَلَوْ كَانَ اللهُ نَاطِقًا بِالْقُرْءَانِ كَنُطْقِ الْخَلْقِ كَمَا يَعْتَقِدُ الْمُشَبِّهَةُ
لِكَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَامَتْ بِهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ أَيْ مَخْلُوقَةٌ
وَقِيامُ الصِّفَةِ الْمَخْلُوقَةِ في شَىْءٍ دَلِيلٌ عَلى تَغَيُّرِهِ
وَأَقْوى عَلامَاتِ الْحُدُوثِ التَّغَيُّرُ وَلا يَقُولُ عَاقِلٌ مُؤْمِنٌ انَّ اللهَ مُتَغَيِّرٌ
{ وللهِ الْمَثَلُ الأَعْلى }
أَيْ للهِ الوَصْفُ الَّذِي لا يُشْبِهُ وَصْفَ غَيْرِهِ
ثُمَّ إِنَّ اللهَ تبارَكَ وَتعالى أَخْبَرَ في الْقُرْءانِ
أَنَّهُ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ بِكَلامِهِ تعالى الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ كُلُّ مَا خَلَقَ اللهُ وَمَا سَيَخْلُقُهُ
مَا أَوْجَدَهُ وَمَا سَيُوجِدُهُ وُجُودُهُ بِكَلامِ اللهِ تعالى هَذَا مَعْنَى
{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون }
مَعْنَى الآيَةِ أَنَّ الشَّىْءَ الَّذِي أَرَادَ اللهُ وُجُودَهُ يَخْلُقُهُ بِكَلامِهِ الأَزَلِيِّ
الْمُعَبَّرِ عَنْهُ في الْقُرْءَانِ بِـ { كُن } لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْطِقُ بِالْكَافِ وَالنُّونِ
النُّطْقُ بِالْكَافِ وَالنُّونِ مِنْ صِفَاتِنَا ثُمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللهَ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ بِالْكَافِ
وَالنُّونِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ بَعْدَ النُّطْقِ بِالْكَافِ وَالنُّونِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ.
لأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الْحُدُوثِ للهِ لأَنَّهُ جَعَلَ اللهَ نَاطِقًا وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ
إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ الَّتي أَرَادَ وُجُودَهَا بِالْكَلامِ الأَزَلِيِّ
الّذي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا هَذَا مَعْنَى الآيَةِ
{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون }
وَأمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ (سُبْحَانَ مَنْ أَمْرُهُ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّون)
فَهُوَ كَلامٌ فَاسِدٌ لا هُوَ قُرْءانٌ وَلا حَدِيثٌ وَلا هُوَ كَلامُ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَبَيْنَهُمَا اخْتِلافٌ الآيَةُ ظَاهِرُهَا وَهُوَ لَيْسَ الْمَقْصُودَ أنَّهُ بَعْدَ كُنْ يَخْلُقُ الشَّىْءَ
فَمَعْنَاهُ يُخْلَقُ الشَّىْءَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ مَعَ ظَاهِرِ الآيَةِ.
الآيَةُ تُقْرَأُ كَمَا جَاءَتْ وَلا تُفَسَّرُ عَلَى الظَّاهِرِ
أَمَّا ذَلِكَ الْكَلامُ الَّذي لا يُعْرَفُ مَصْدَرُهُ
فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بَعْضُ الآياتِ الْقُرْءانِيَّةِ مَنْ يَحْمِلُهَا عَلى الظَّاهِرِ يَهْلِكُ.
اللهُ تعالى لِيَمْتَحِنَ عِبَادَهُ أَيْ لِيَبْتَلِيَهُمْ أَنْزَلَ ءاياتٍ مَنِ اعْتَقَدَ ظَاهِرَهَا ضَلَّ وَهَلَكَ
وَللهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا في الْقُرْءانِ
بِأَنَّ بَعْضَ الْقُرْءَانِ يُضِلُّ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ وَيَهْدِي بِهِ بَعْضًا
وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا }
{ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ }
وَالآيَةُ مَعْنَاهَا لا تَصِلُ إِلَيْهِ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِتَفْسِيرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
{ وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى }
[ إِلَيْهِ يَنْتَهِي فِكْرُ مَنْ تَفَكَّرَ فَلا تَصِلُّ إِلَيْهِ أَفْكَارُ الْعِبَادُ ] اهـ
لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا يُتَصَوَّرُ
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ
[ إِنَّ الَّذي يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَهُ
أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي هَيْئَةٍ وَلا صُورَةٍ
لأَنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الْكَيفِيَّةَ وَهِيَ عَنِ اللهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ]
هَذِهِ عَقِيدَةُ الْمُسْلِمينَ الَّتي تُفْهَمُ
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء ٌ}
مَنِ اعْتَقَدَهَا نَجا وَمَنِ اعْتَقَدَ خِلافَهَا ضَلَّ وَهَلَكَ.
الفقير إلي الله عبد العزيز