حيث أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها ،
فإن التاء أقل استعمالاً و أبعد عن أفهام العامة ،
والباء والواو أعرف عند الكافة
وهي أكثر دوراناً على الألسنة وأكثر استعمالاً في الكلام ،
ثم أتى الله سبحانه و تعالى بأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء
وتنصب الأخبار بالنسبة إلى أخواتها
فإنّ (كان) وما قاربها أعرف عند الكافة من تفتأ .
وما قاربها أكثر استعمالاً منها وكذلك منها وكذلك لفظ { حَرَضًا }
أغرب من جميع أخواتها من ألفاظ الهلاك فاقتضى حسن الوضع في النظم
أن تجاوز كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة أو الاستعمال
توخياً لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ
ولتتعادل الألفاظ في الوضع و تتناسب في النظم .
ب . و في هذا الباب قوله تعالى :
{ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }
، في سياق بيان الضعف البشري أمام جبروت الخالق تبارك وتعالى
فأراد بيان ضعفهم أمام العذاب الخفيف القليل
فأتى ب (إن) التي تفيد التشكيك في وقوعه ،
وأتى بكلمة (المسّ) بدل الإصابة أو الحرق فهو دونها في المرتبة
ودون الدخول ، وكذلك كلمة{ نَفْحَةٌ } مع تنوينها المشعر بضعف العذاب
وحقارته و(من) المفيدة للبعضية فلم يأتهم كل العذاب
وإنما هي نفحة عابرة يسيرة من جزء صغير من العذاب ،
ثم العذاب لم يُضف إلى اسم دال على القهر والجبروت
بل أضيف إلى أرق اسم دال على الشفقة وهو (رب)
ثم أضيف الرب إلى مقرّب محبوب
وهو ضمير خطاب رسول الله صلى الله عليه و سلم .
إن الكلمات كلها مسوقة إلى هدف واحد
وهو وصف هذا العذاب بالقلة والضآلة والحقارة
ليبيّن بالتالي أن المذنبين يندمون ويتأسفون على ما عملوا
عند تعرضهم لنفحةٍ بسيطة من عذاب الله
{ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }
وهكذا لو ذهبنا نستعرض الآيات القرآنية في موضوع
من الموضوعات المذكورة فيه نجد هذا التناسق وهذا الانسجام بين المعاني
والألفاظ المختارة لأدائها فلا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد،
بل الألفاظ تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها،
كما أن الألفاظ عربيّة مستعملة جارية على قوانين اللغة
سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة سلسة كالماء في السلاسة
والعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة .
اهتمامه بالجملة القرآنية واختيار المكان المناسب فيها للكلمة المعبرة :
بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقاً عن التناسق بين العبارة
فإن هنالك نوعاً من التناسق الرائع بين الكلمات في الجملة الواحدة
وبين الحروف في الكلمة الواحدة.
فنظرة إلى تلك الحروف تبرز تناسبها لبعضها تناسباً طبيعياً في الهمس
والجهر والشدة واللين والتفخيم والترقيق مما يشكل أنغاماً متناسقة متناسبة
وهذه الخاصية تعود بلا شك إلى طريقة اختيارها وسبكها وتناسب مخارجها .
كما أن وضع الكلمة في الآية واختيار موقعها والتئامها مع جارتها
له الأثر الكبير في إعطاء هذا الجرس الخاص
والإيقاع المؤثر في نفس السامع .
ولا يقتصر وضع الكلمة في الآية على تأثيره في اللحن والنغم
وإنما لهذا الموقع والوضع المناسب تأثير على المعنى وإبرازه،
لذا نجد أن كثيراً من الباحثين
اقتصروا على إبراز هذه الناحية دون الإشارة إلى ناحية اللحن والإيقاع.
أن الكلمات القرآنية لها دور وضرورة في السياق للدلالة على المعنى،
كما أن لها دوراً في تناسب الإيقاع
دون أن يطغى هذا على ذاك أو يخضع النظم لأحد الأمرين .
نرى اهتمام النظم القرآني في اختيار الكلمة المناسبة ذات الجرس المعين
كما أنها تؤدي في نفس الوقت دورها في تصوير المعنى
وتشخيصه وإيضاحه على أتم صورة .
أ- اختير كلمة { حَرْثٌ }
لتشبيه النساء به دون الأرض أو الحقل أو الزرع وغيرها من المترادفات
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }
ولعل أختيار هذه اللفظة دون سواها لما فيها من لطف الكناية في ذلك التشابه
بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص،
وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث
وذلك النبت الذي تخرجه الزوج وما في كليهما من تكثير و عمران و فلاح .
بينما هذه اللطائف لا تستفاد من كلمة (الأرض)
إذ قد تكون جدباء لا تصلح لحراثة الزرع
وكذلك الحقل فإنه لا يدل على عمل المالك فيه
بل تدل الكلمة على شيء جاهز لا دخل فيه لبذر الحارث .
أن القرآن الكريم يتناول من الكلمات المترادفة أدقها دلالة على المعنى
وأتمها تصويراً وتشخيصاً للصورة
وأجملها وأحلاها إيقاعاً ووزناً بالنسبة إلى نظائرها .