عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 08-11-2013, 05:22 PM
بنت الاسلام بنت الاسلام غير متواجد حالياً
Moderator
 
تاريخ التسجيل: Sep 2010
المشاركات: 3,019
افتراضي

ب‌- ومن هذا القبيل كلمة { أَغْطَشَ }
في قوله تعالى:
{ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا }
[ النازعات : 29 ] .
فهي مساوية من حيث الدلالة اللغوية لأظلم،
ولكن { أَغْطَشَ } تمتاز بدلالة أخرى من وراء اللغة فالكلمة تعبر عن ظلام
انتشر فيه الصمت وعمّ الركود وبدت في أنحائه مظاهر الوحشة.
ولا يفيد هذا المعنى كلمة (أظلم) إذ تعبر عن السواد الحالك ليس غير .
وحينما يصف القرآن الكريم دعوة امرأة العزيز للنسوة ـ
اللاتي تحدثن منتقدات عن مراودتها يوسف عن نفسه ـ
إلى جلسة لطيفة في بيتها لتطلعهن فيها على يوسف وجماله
فيعذرنها فيما أقدمت عليه، لقد قدمت لهن في ذلك المجلس طعاماً ولا شك.
ولقد أوضح القرآن هذا، ولكنه لم يعبر عن ذلك بالطعام فهذه الكلمة
إنما تصور شهرة الجوع وتنقل بالفكر إلى المطبخ بكل ما فيه
من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه،
ولكن بماذا يعبّر إذن؟ وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام
ولا تمس الصورة بأي تعكير أو تشويه ؟
لقد أبدع القرآن لذلك تعبيراً عجيباً رائعاً
حيث قال:
{ لَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً }
[ سورة يوسف : 31 ] .
كَرِيمٌ { مُتَّكَأً } كلمة تصور من الطعام ذلك النوع الذي
إنما يقدّم تفكهاً وتبسطاً وتجميلاً للمجلس وتوفيراً لأسباب المتعة فيه،
حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والأتكاء.
ولعلها أدركت بغريزتها النسائية ما سيؤول إليه أمرهن
فاختارت هذا المتكأ مما يحتاج فيه إلى سكين
{ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا }
وأحياناً يكون الاختيار للكلمة في مكان دون أماكن
ويستبدل به غيرها لسرّ لطيف بالرغم من كون الموضوع واحداً،
لكن الكلمة المختارة تعطي مدلولاً خاصاً
لا يوفيه حقه إلا استعمال الكلمة القرآنية المختارة .
فمثلاً: جاءت الملائكة بالبشرى لزكريا عليه إسلام بيحيى،
وأيضاً جاءت البشرى للسيدة مريم العذراء بالمسيح عليه السلام.
لكن وضع المبشرين مختلف،
وتلقّى الخبر منهما يكون له رد فعل يغاير ما في نفس الآخر،
واستغراب كلّ منهما يكون لجانب أشد التصاقاً بحالة ووضعه.
قال زكريا عليه السلام عندما جاءته البشرى
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ }
[ سورة آل عمران : 40 ]
وقالت مريم عليها السلام عندما جاءتها البشرى
{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ }
[ سورة آل عمران : 47 ].

ورد في كلام زكريا عليه السلام لفظ الغلام وهو الموافق والمطابق لحاله
لأنه رجل متزوج ومن شأن المتزوجين كما هي العادة أن يولد لهم،
ولكن الغريب في الأمر
والمعجزة أن يولد له في هذه السن المتأخرة من حياته وامرأته عاقر
فكانت التي تؤدي الغرض ووجه الاستغراب هي كلمة {غُلاَمٌ }
أما مريم عليها السلام
فالتعجب في جانب آخر إذ أنها عذراء ولم يمسسها بشر ولم تك بغياً،
فالغرابة والمعجزة أن تلد وهي عذراء
فكانت الكلمة المعبرة التي تؤدي المعنى بدقة
وتوضح وجه الاستغراب لها هي كلمة (ولد) .
فسبحان الذي أحاط علمه بسر اللغة ومكنوناتها
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
[ الملك : 14 ]
ت‌ - ومن هذا القبيل استعمال كلمة { قَرْيَةٍ } تارة
واستعمال كلمة { الْمَدِينَةِ } في موضع آخر في سورة الكهف .
فعندما كان الحديث عن بخل ولؤم السكان جاء التعبير بكلمة { أَهْلَ قَرْيَةٍ }
لأن مادة (قرى) تدل على الجمع ومن مستلزماته الإمساك والبخل،
بينما عندما جاء الحديث عن الغلامين والخوف من ضياع كنوهما
جاء التعبير بـ { الْمَدِينَةِ } لأن زحمة المدينة وكثرة الوجوه الغريبة فيها
أليق بإضاعة المساكن والضعفاء،
كما أن التحايل والغبن يكثر في المدن أكثر منها في القرى.
وكل ذلك تجده في قوله تعالى :
{ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا *
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ }
[ سورة الكهف : 77 ـ 82 ] .

رد مع اقتباس