والفجور الميل عن الحق، والاحتيال في رده، وكم يكون عظيماً ذلك الذي
يذل للمؤمنين، ويؤوب إلى الرشد، ويعجل إلى ربه،ويرجع ليرضى عنه.
ولقد ضرب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مثلاً رفيعاً في سرعة
الفيئة حين علم أن مسطح بن أثاثة الذي يأكل من نفقة أبي بكر كان
قد شارك في اتهامابنته السيدة عائشة رضي الله عنه بحديث الإفك،
فأقسم أبو بكر ألا ينفقعليه،
فعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
حين قال لها أهلا لإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا
فأنزل الله:
{إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ }
النور: 11
العشر الآيات كلها في براءتي،
فقال أبوبكر الصديق - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه -:
"والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة"
فأنزل الله:
}وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى{
النور 22
الآية، قال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلىمسطح
النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبداً
البخاريالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل:
وليس العيب الوقوع في الخطأ إذ
( كل بني آدم خطّاء، وخير الخطاءين التوابون )
وإنما تكمن المصيبة في الإصرار على الخطأ، والتمادي في الباطل،
مع أن أبواب الرحمة مُفتّحة تدعونا لسرعة التوبة
فعن أبي موسى رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
( إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار،
ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها )
مسلم
وتستطيع تجاوز العقبة بأن تكون صريحاً مع نفسك، وتعترف بخطئك،
وهذه بداية طريق التوبة والرجوع إلى الله، فإن العبد إذا اعترف بذنبه
ثم تاب تاب الله عليه، وإذا كان ربنا يدعونا إلى سعة رحمته،
ويقابل ضعفنا وإساءتنا بإحسانه، فما الذي يؤخرنا عن إصلاح أنفسنا،
وما الذي يحول بيننا وبين الرجعة السريعة، والتوبة النصوح؟
وقد جاء في الحديث القدسي الذي يرويه
أبو هريرة رضي الله عنه قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم
( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني
في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم،
وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً
تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )
البخاريأيها العبد المؤمن
بادر بالتوبة إلى الله عز وجل، وإياك ثم إياك والتسويف.
إن الذي يحول دون التعجيل بالتوبة هو الوقوع في قيد الإصرار،
ولقد بوبالإمام البخاري رحمه الله أحد أبواب كتاب الإيمان بقوله:
باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر،
وما يُحذر من الإصرار على النفاق والعصيان منغير توبة
لقول الله تعالى:
}وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {
آلعمران: 135
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذا الباب:
وكأن المصنف لمّح بحديث عبد الله بن عمرو المخرج عند أحمد
مرفوعاً قال
)ويل للمصرّين الذي يصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون(
أي: يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون،
قاله مجاهد وغيره"،وصورة الإصرار هي العزم على معاودة الذنب،
وعدم الإقلاع بالتوبة إلى الله منه، والله أعلم.
فهل يختار المؤمن مصير الويل والهلاك أم يقاوم هواه ويستعلي
على نزوات الشيطان لينطلق من قيدها ساعياً إلى رحمة الله؟
فإذا أسأت فأحسن، وإذاأذنبت فاستغفر؛ لعل عملك يشهد لك بالسرعة
في طاعة الله، وإذا أخطأت في حق أحد فبادر بالاعتذار،
قبل فوات الأوان، وقبل أن تصل الروح إلى الحلقوم،
عند ذلك لا ينفع الندم
قال الله تعالى:
}فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ{
الواقعة: 83-85
أخي في الله: أما ذكرت أنك ميت، وأن الموت لا مفر منه.
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهـرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نـؤمـل آمــالاً و نبـغـي نتـاجـهـا وعلَّ الـردى عمَّـا نرجيـه أقـرب
إلى الله نشكو قسـوة فـي قلوبنـا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه،
ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه على كل شيء قدير،
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.