و لكن التعبير التصويري يؤديه في هذه الصورة :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا و َلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ
وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }
فيشخص هذا المعنى ويبرز في تلك الصور المتحركة المتعاقبة :
{ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا } درجة { و َلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } وهذه أخرى،
{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } وهذه ثالثة ،
والاقتران بين الطالب والمطلوب { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } وهي الرابعة
إن الضعف المزري الذي يثير في النفس السخرية اللاذعة
والاحتقار المهين ، ولكن أهذه مبالغة ؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو ؟
كلا فهذه حقيقة واقعة بسيطة . إن هؤلاء الآلهة
{ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا و َلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ }
ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل و الفيل ،
إنها معجزة الحياة يستوي فيها الجسيم والهزيل .
فليست المعجزات هي خلق الهائل من الأحياء
إنما هي خلق الخلية الحية كالهباء .
و الصورة الفنية هنا هي الربط بين قدسية الآلهة المزعومة
حيث وُضعت في أذهان معتنقيها في أقدس صورة
والربط بينها وبين مخلوق حقير .
و لم يكتف بهذا الربط بل حشد لهذا المخلوق جموعأً ضخمة
فعجزوا عن خلقه ، ثم في الصورة التي تنطبع في الذهن
من طيرانهم خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه ،
وفشلهم مع أتباعهم عن هذا الاستنقاذ .
ثم محاسبة الناس على أعمالهم ودخول المحسنين الجنة والمسيئين النار ،
و لذة أهل النعيم والترحيب بهم وشقاء أهل العذاب وتبكيتهم :
كل ذلك يمكن أن يفهمها الإنسان مجردة وهي حقائق لم تقع بعد .
فالتعبير عنها بكلمات مجردة تنقل الفكرة إلى الذهن باهتة .
وضع لنا هذه الحقائق في إطار زاهٍ حافل بالحركة و كأن المرء ـ
حين يقرؤها ـ يعيش أجوائها، وتنقبض النفس لمشاهدة الأهوال
وتخضع لقوة الجبار وتتشوّق لمرافقة السعداء .
فهذا مشهد يوم القيامة قال تعالى :
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ و َتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67}
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ {68}
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ والشُّهَدَاء
وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {69}
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهو ُوَأَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ {70}
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ
وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى
وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ {71}
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {72}
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73}
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {74}
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {75} }
[سورة الزمر:66ـ 75]
إنه مشهد رائع حافل ،
يبدأ متحركاً ثم يسير وئيداً حتى تهدأ كل حركة ويسكن كل شيء
ويخيّم على الساحة جلال الصمت ورهبة الخشوع .
ويبدأ المشهد بالأرض جميعاً في قبضة ذي الجلال ،
وها هي السماوات جميعاً مطوّيات بيمينه .
إنها صورة يرتجف لها الحسّ و يعجز عن تصويرها الخيال ،
ثم ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث ،
فيصعق من يكون باقياً على ظهرها من الأحياء .
ولا نعلم كم مضى من الوقت حتى انبعثت الصيحة الثانية
{ فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ }
و يغير ضجيج وعجيج ، تجتمع الخلائق .
فعرض ربك هنا تحف به الملائكة فما يليق الصخب في مثل هذا المقام .
{ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا }
أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض ، أشرقت بالنور الهادئ
{ بِنُورِ رَبِّهَا } فإذا هي تكاد تشفّ من الإشراق ،
{ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ والشُّهَدَاء }
و طوي كل خصام و جدال في هذا المشهد خاصة
{ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {69}
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهو ُوَأَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ }
فلا حاجة إلى كلمة واحدة تقال ولا إلى صوت واحد يرتفع .
و هكذا تجمل هنا عملية الحساب و الجزاء ، لأن المقام مقام روعة و جلال .
و إذا تم الحساب و عرف المصير وجّه كل فريق إلى مأواه
{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا }
حتى إذا وصلوا إليها بعيداً
هناك استقبلتهم حزنتها بتسجيل استحقاقهم لها وتذكيرهم بما جاء بهم إليها
{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ
وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ }
{ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
فالموقف موقف إذعان و اعتراف وتسليم
{ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى } .