وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( إنَّ الله ليسأل العبدَ يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذْ رأيتَ المنكر أن تنكره ؟
فإذا لقَّن الله عبدًا حجَّته قال: يا ربِّ! رجوتُك وفَرِقْتُ مِن النَّاس )
فعل أمر نهى عنه الشَّارع :
فمَن دفعه حياؤه إلى فعل أمرٍ نهى عنه الشَّارع، أو إلى ترك واجب مرغوب
في الدِّين فليس حييًّا شرعًا، وإنَّما هذا يعتبر ضعفًا ومهانة.
فليس مِن الحَيَاء أن يترك الصَّلاة الواجبة بسبب ضيوفٍ عنده حتى
تفوته الصَّلاة. وليس مِن الحَيَاء أن يمتنع الشَّخص مِن المطالبة
بالحقوق التي كفلها له الشَّرع
صور الحَيَاء كما ذكرها ابن القيِّم :
ذكر ابن القيِّم صورًا للحياء وقسَّمها إلى عشرة أوجه وهي :
حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حِشْمَة،
وحياء استصغارٍ للنَّفس واحتقارٍ لها، وحياء محبَّة، وحياء عبوديَّة،
وحياء شرف وعزَّة، وحياء المستحيي مِن نفسه
فمنه حياء آدم عليه السَّلام لما فرَّ هاربًا في الجنَّة،
قال الله تعالى: أفرارًا منِّي يا آدم ؟ قال: لا يا ربِّ، بل حياءً منك.
كحياء الملائكة الذين يسبِّحون اللَّيل والنَّهار لا يفترون،
فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حقَّ عبادتك.
هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربِّه، يكون حياؤه منه.
كحياء النَّبيِّ مِن القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب
وطوَّلوا الجلوس عنده، فقام واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا.
كحياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
أن يسأل رسول الله عن المذْي لمكان ابنته منه.
وحياء الاستحقار واستصغار النَّفس:
كحياء العبد مِن رَبِّه عزَّ و جلَّ حين يسأله حوائجه،
احتقارًا لشأن نفسه واستصغارًا لها...
وقد يكون لهذا النَّوع سببان:
أحدهما: استحقار السَّائل نفسه، واستعظام ذنوبه وخطاياه.
والثَّاني: استعظام مسؤوله.
فهو حياء المحبِّ مِن محبوبه، حتى إنَّه إذا خطر على قلبه في غيبته
هاج الحَيَاء مِن قلبه، وأحسَّ به في وجهه، ولا يدرى ما سببه، وكذلك
يعرض للمحبِّ عند ملاقاته محبوبه ومناجاته له روعةٌ شديدةٌ،
ومنه قولهم: جمال رائع، وسبب هذا الحَيَاء والرَّوعة، ممَّا لا يعرفه أكثر النَّاس.
ولا ريب أنَّ للمحبَّة سلطانًا قاهرًا للقلب، أعظم مِن سلطان مَن يقهر البدن،
فأين مَن يقهر قلبك وروحك إلى مَن يقهر بدنك؟ ولذلك تعجَّبت الملوك
والجبابرة مِن قهرهم للخَلْق، وقهر المحبوب لهم وذلهم له،
فإذا فاجأ المحبوب مُحِبَّه ورآه بغتةً: أحسَّ القلب بهجوم سلطانه عليه
وأمَّا الحَيَاء الذي يعتريه منه -وإن كان قادرًا عليه كأمته وزوجته- فسببه
والله أعلم أنَّ هذا السُّلطان لـمَّا زال خوفه عن القلب، بقيت هيبته واحتشامه،
فتولَّد منها الحَيَاء، وأمَّا حصول ذلك له في غيبة المحبوب فظاهرٌ لاستيلائه
على قلبه، فوهمه يغالطه عليه ويكابره حتى كأنَّه معه.
فهو حياء ممتزجٌ مِن محبَّة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديَّته لمعبوده،
وأنَّ قدره أعلى وأجلُّ منها، فعبوديتَّه له توجب استحياءه منه لا محالة.
وأما حياء الشَّرف والعزَّة :
فحياء النَّفس العظيمة الكبيرة، إذا صدر منها ما هو دون قدرها مِن بذلٍ
أو عطاءٍ وإحسانٍ، فإنَّه يستحيي -مع بذله- حياء شرف نفسٍ وعزَّةٍ،
وهذا له سببان: أحدهما: هذا
والثَّاني: استحياؤه مِن الآخذ حتى كأنَّه هو الآخذ السَّائل،
حتى إنَّ بعض أهل الكَرَم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياءً منه،
وهذا يدخل في حياء التَّلوُّم؛ لأنَّه يستحيي مِن خَجْلَة الآخذ.
وأما حياء المرء مِن نفسه: فهو حياء النُّفوس الشَّريفة العزيزة الرَّفيعة
مِن رضاها لنفسها بالنَّقص وقناعتها بالدُّون، فيجد نفسه مستحيًا مِن نفسه
حتى كأنَّ له نفسين يستحيي بإحداهما مِن الأخرى، وهذا أكمل ما يكون
مِن الحَيَاء؛ فإنَّ العبد إذا استحيى مِن نفسه فهو بأن يستحيي مِن غيره أجدر