الأخت / الملــــكة نور
النظم القرآني جزالته و تناسقه
بقلم الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم
ويقصد بنظم القرآن طريقة تأليف حروفه ، وكلماته ، وجمله ،
وسبكها مع أخواتها في قالب محكم ،
ثم طريقة استعمال هذه التراكيب في الأغراض مع أخواتها في قالب محكم ،
ثم طريقة استعمال هذه التراكيب في الأغراض التي يتكلم عنها ،
للدلالة على المعاني بأوضح عبارة في أعذب سياق وأجمل نظم .
والفرق بين الأسلوب و النظم :
أن دائرة الأسلوب أوسع وأشمل ولا يدرك الأسلوب بالجملة الواحدة ،
بينما النظم يمكن إدراكه في الجملة الواحدة بل وحتى في الكلمة الواحدة .
إن المتأمل في حروف القرآن الكريم وكلماته
لا يجد فيها شيئاً خارجاً عن المألوف المتداول في لغة العرب قديماً وحديثاً،
ولكن عندما نتلو آيات الله نشعر أن للعبارة القرآنية كياناً خاصاً
بني عليه تراكيبه ورسم معالم صورة نظمه الفريد على هذا الكيان الفريد .
فالكلام كما عهدته العرب شعر ونثر وما هو بين الشعر والنثر وهو السجع ،
ولو كان للإنسان عربي أن يتكلم أو يكتب أو يعلم أو يشرع أو يلفظ
لما خرج في نظم كلامه أو تأليفه عن أخذ هذه الأنواع المعهودة عند
ولكن القرآن جاء في ثوب غير تلك الأثواب وفي صورة غير تلك الصور،
جاء نسيج وحده ، و صورة ذاته ، فلا هو شعور ولا هو نثر ولا هو سجع ،
و إنما هو قرآن ، فالآية في النظم القرآني وهي ليست بيت شعر في سورة ،
ولكن آية مقطع تنتهي به هو الفاصلة ،
و ليست هذه الفاصلة قافية شعر ولا حرف سجع
وإنما هي شاهد قرآني لا يوجد إلا فيه ، ولا يعتدل في كلامه غيره .
إن النظم القرآن البديع بهر العرب بحسن مبادئ الآي والمقاطع
وتماسك الكلمات واتساقها في التراكيب ،
و قد تأمّلوه آيةً آيةً وعُشراً عُشراً وسورةٌ سورة
فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة يُنكر شأنها أو يُرى غيرها
أصلح هناك أو أشبه أو أحرى ،
بل وجدوا اتساقاً بهر العقول وأعجز أهل الحكم والبلاغات ،
ونظاماً والتئاماً وإتقاناً وإحكاماً بهر العقول وأعجز أهل الحكم والبلاغات ،
ونظاماً والتئاماً وإتقاناً وإحكاماً لم يدع في نفس واحد
منهم موضع طمع حتى خرست الألسن أن تدّعي وتتقوّل .
وأقروا في قرارة أنفسهم
أن هذا ليس من قول البشر وإن أنكروا ذلك بألسنتهم .
و مجيء النظم القرآني على هذا الشكل من الإتقان و الإحكام إنما يعود ـ
كما يقول ابن عطية ـ إلى أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً
أحاط بالكلام كله علماً إذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطة
أي لفظة تصلح أن تبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره
، والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول
ومعلوم ضرورةً أن بشراً لم يكن قط محيطاً .
فلهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة .
و يظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة
يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولاً كاملاً
ثم تُعطى لأحد نظيره فيأخذها بقريحة خاصة فيبذل فيها وينقّح
ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل. وكتاب الله لو نزعت منه لفظة
ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد ،
ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا
عن مرتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذوق وجودة القريحة و ميز الكلام .
وفيما يلي بعض مزايا النظم القرآني وأمثلة عليها :
التناسق بين العبارة والموضوع الذي يُراد تقريره :
إن الذي يتمعن النظر في النظم القرآني
يلاحظ التناسق الكامل والتآلف التام بين العبارة القرآنية
والمعنى الذي يُراد بيانه ، وتوضيحه ،
فالألفاظ في النظم يُلائم بعضها بعضاً وهي كلها متوجهة إلى الغرض المنشود
بحيث إذا كان المعنى غريباً كانت ألفاظه غريبة
وإذا كان المعنى معروفاً مستحدثاً كانت الألفاظ تناسبها .
يقول بديع الزمان :
فالكلام إذا حذا حذو الواقع وطابق نظمه نظامه حاز الجزالة بحذافيرها .
ويكون ذا قوة و قدرة إذا كان أجزاؤه مصداقاً
لماقيل :
عبارتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
بأن تتجاوب قيودات الكلام ونظمه وهيئته
ويمدّ كل بقدره الغرض الكلي مع ثمراته الخصوصية .