فمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مخافة المخلوقين
الذين لا يملكون ضراً ولا نفعاً نزعت منه الهيبة أمام الأعداء،
وهذا ما نراه ونلمسه في واقعنا اليوم من تسلط الأعداء على أمة الإسلام
وتوجه السهام إليها من كل حدب وصوب، وفقدان هيبتها أمام أعدائها
وما ذلك إلا بتخليها عن منهج ربها وتركها للأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر الذي هو صمام أمنها ومصدر عزتها، فإذا خذلت دينها
وكتابها كان الجزاء من جنس العمل
}إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ
فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ{
ومن أعظم درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجهاد في سبيل الله تعالى
الذي تخلى عنه كثير من المسلمين، ولم يحصدوا من وراء ذلك إلا حياة
الذل والهزيمة، والاستسلام لأعداء الأمة.
عندما ترك بنو إسرائيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
}لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ
لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ{
قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
"﴿كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾ أي كان لا
ينهى أحدٌ منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم ثم ذمهم على ذلك ليحذر
أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه"(9).
وفي هذا المعنى حديث عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
)إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول
يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه
ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض
}لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ{
إلى قوله ﴿فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 78 -81]
( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي
الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا)(10).
) أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم )
ويكون اللعن على في المقام الأول على العلماء والدعاة وطلاب العلم؛
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-:
"فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله
ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره"(12)
فتركهم لهذا الواجب وسكوتهم عن ذلك من كتم العلم الذي يجب بيانه للناس
فلقد لعن الله أحبار اليهود ورهبانهم عندما كتموا الحق الذي عرفوه
في كتبهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يبينوا ذلك لأتباعهم
}إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ{
وقد استدل العلماء بهذه الآية على وجوب تبليغ العلم، وإظهار الحق للناس
دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق الأجرة على ما يجب عليه فعله
كما لا يستحق الأجرة على الإسلام(13).
قال الإمام الشوكاني رحمه الله:
"قوله: ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ﴾ إلى آخر الآية فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك
ملعون، واختلفوا مَن المراد بذلك؟ فقيل أحبار اليهود، ورهبان النصارى
الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل كل من كتم الحق
وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول
ما وقع من اليهود، والنصارى من الكتم، فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية
كل من كتم الحق، وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره
فإن من لعنه الله، ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده
قد بلغ من الشقاوة، والخسران إلى الغاية التي لا تلحق، ولا يدرك كنهها"(14).
إعداد: رياض عيدروس عبد الله
28/ 4/ 1431هـ- 12/ 4/ 2010م
مراجعة: د/ قسطاس إبراهيم النعيمي
(1) هذا هو المبحث الثالث من بحث بعنوان
(حكمة الشارع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
قُدم لندوة تقوية الإيمان وزيادته (الدورة السابعة) المنعقدة بجامعة الإيمان بتاريخ
6-8/ جماد أولى/ 1431هـ، الموافق 20-22/ ابريل/ 2010م.
(2) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه، 28/ 17.
(3) انظر آثار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونتائج التخلي عنهما،
(4) مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار،2/ 133، عبد العزيز بن محمد السلمان.
(5) تفسير السعدي، 1/ 240.
(6) تفسير القرطبي، 4/ 173.
(7) إعلام الموقعين عن رب العالمين، 2/ 198.
(8) أخرجه ابن حبان في صحيحه، 2/ 67، برقم: 289،
والطبراني في المعجم الأوسط 14/ 432، برقم: 6854،
وأحمد في المسند،51/ 251، برقم: 24094،
قال الألباني: (حسن لغيره)، صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 288
(9) تفسير ابن كثير2/ 307.
(10) أخرجه أبو داود، 11/ 412، برقم: 3774،
قال الألباني: (ضعيف)، انظر صحيح وضعيف سنن أبي داود، 9/ 337.
(11) المعجم الكبير للطبراني،8/ 487.
(12) إعلام الموقعين عن رب العالمين، 2/ 272.
(13) انظر تفسير القرطبي،2/ 185، بتصرف.