وروى الإمام أحمد رحمه الله عن حذيفة رضي الله عنه
أنه كان يقول لبعض أصحابه:
" إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فيصير منافقا وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات
لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر وَلَتَحَاضُّنَّ على الخير أو لَيُسْحِتَنَّكُمْ
الله جميعا بعذاب أو لَيُؤَمِّرَنَّ عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم"(39).
"إن من غفلتك عن نفسك إعراضك عن الله بان ترى ما يسخطه فتجاوزه
ولا تأمر ولا تنهى خوفا ممن لا يملك ضرا ولا نفعا... من ترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر من مخافة المخلوقين نزعت منه هيبة الله تعالى
فلو أمر بعض ولده أو بعض مواليه لا ستخف به فكيف يستجاب دعاؤه من خالقه؟"(40).
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يقومون بهذه الفريضة على أكمل وجه
لا يخافون في الله لومة لائم، ونقلت عنهم الكثير من التوجيهات
والتحذيرات من التفريط في هذا الأمر من ذلك ما روي
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال:
"لتأمرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً
ظالماً لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم،
ويستنصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم"(41).
ثامناً: الخسران في الدنيا والآخرة:
كما علمنا سابقاً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب الفلاح
في الدنيا والآخرة فعلى خلاف ذلك يكون ترك الأمر بالمعروف
عن المنكر سبب الخسران في الدنيا والآخرة، فلقد أقسم الله عز وجل
في كتابه الكريم أن كل إنسان في هذه الدنيا في خسارة،
إلا من حقق مراتب أربعة ذكرها الإمام ابن القيم عند قوله تعالى:
}وَالْعَصْر ِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
"إن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله
الثالثة: تعليمه من لا يحسنه
الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه
فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة وأقسم سبحانه في هذه السورة
بالعصر إن كل أحد في خسر ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾
وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة، ﴿وعملوا الصالحات﴾
وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى،
﴿وتواصوا بالحق﴾ وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا فهذه مرتبة ثالثة
﴿وتواصوا بالصبر﴾ صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر
عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة"(42).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
"﴿وتواصوا بالحق﴾ وهو أداء الطاعات وترك المحرمات
﴿وتواصوا بالصبر﴾ أي على المصائب والأقدار وأذى من يؤذي
ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر" (43).
فهذه السورة القصيرة في آياتها، الواسعة في مدلولاتها
قد جمعت الكثير من أصول الدين
ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله:
"لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم"(44).
ويظهر خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المثل
الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للاعتبار والتفكر في بيان حال
ففي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما:
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة
فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا
من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا
ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا
وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا )(45).
فقوله صلى الله عليه وسلم:
«فإن يتركوهم وما أرادوا» أي:
فإن يترك الذين سكنوا فوقهم إرادة الذين سكنوا تحتهم من الخرق..
كلهم الذين سكنوا فوق والذين سكنوا أسفل لأن بخرق السفينة
تغرق السفينة ويهلك أهلها.(46)
ويظهر التشبيه وضرب المثل في هذا الحديث بمعرفة عدة فوائد منها:
الأولى: أن سكوت أصحاب السفينة عن شركائهم الذين أرادوا خرقها
سبب هلاكهم في الدنيا، فكذلك سكوت المسلمين عن الفاسق وترك الإنكار
عليه سبب هلاكهم في الدنيا بنزول العقوبة العامة وفي الآخرة بالعذاب الأليم.
الثانية: أن تحجج المفسدين بقولهم إنما نخرق في نصيبنا، لا ينجي
أصحاب السفينة من الهلاك، فكذلك قول مرتكب المنكر: إنما أجني على
ديني لا على دينكم، وعليكم أنفسكم، ولي عملي ولكم عملكم،
وكل شاة معلقة بعرقوبها، ونحو هذا الكلام مما يجري على ألسنة الجاهلين
فهذا لا ينجي المسلمين من الإثم والعقوبة وذلك لأن شؤم فعله
وسوء عاقبته فساد يشملهم أجمعين.
الثالثة: أنه إذا قام أحد الشركاء في السفينة بمنع المفسدين من خرقها
كان سببًا في نجاة أهل السفينة كلهم، كذلك من قام من المسلمين بإنكار
المنكر كان قائمًا بفرض الكفاية عنهم، وكان سببًا لنجاة المسلمين
جميعًا من الإثم، وله عند الله الأجر الجزيل على ذلك.
الرابعة: أنه إذا أنكر مُنْكِر من أهل السفينة على الشريك الذي أراد خرقها،
فاعترض عليه معترض منهم، نسب ذلك المُعترض إلى الحمق
وقلة العقل، والجهل بعواقب هذا الفعل، إذ المُنكِر ساعٍ في نجاة المُعترض وغيره
كذلك لا يعترض على من ينكر المُنكَر إلا من عظم حمقه وقل عقله
وجهل عواقب المعصية وشؤمها، إذ المُنكِر قائمٌ بإسقاط الفرض الواجب
على المعترض وغيره، وساع في نجاتهم وخلاصهم من الإثم والحرج