أدب الاختلاف .. و فوضى الواقع
يحق لنا أن نتساءل في خضم فوضى الواقع الذي تعيشه الأمة في هذا
الزمن عن أدب الاختلاف وفقهه الحضاري في شريعتنا الإسلامية،
ونحن نشاهد هذا الأدب الجم قد ذاب في فوضى واقعٍ جَرَفَ الكثير
من العقول، واستولى على الألباب، حتى لدى أصحاب الفكر والنظر
في علوم الشريعة وفقهها الحضاري.
فأدب الاختلاف أصل عتيد في شريعتنا الإسلامية، وليس محل خلاف
أو اختلاف فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الصحابة يوم بني قريظة
ولم يُعَنِّفْ أحداً منهم على اجتهاده.
عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال:
قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا لَمّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزابِ:
( لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إلا في بَنِي قُرَيْظَةَ ).
فأدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ في الطَّرِيقِ
لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا.
بَلْ نُصَلِّي؛ لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا مِنْهُمْ. متفق عليه.
ثم نهل الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح من معين هذا الأدب،
وارتشفوا من رحيقه وهم يتمثلون
قول النبي صلى الله عليه وسلم:
( إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصابَ فَلَهُ أَجْرَانِ
، وَإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ )
المجتهد الذي يملك أدوات الاجتهاد مأجور على اجتهاده، سواء أصاب
أم أخطأ، ما دامت النية صالحة والغاية سامية.وهذا يدل على أن الاختلاف
واقع لا محالة لعوامل متنوعة، في مسائل تختلف فيها المدارك والأفهام؛
ولهذا لم يقصد سلفنا الصالح الاختلاف لذاته، بل كان الهدف عند الجميع
هو القصد إلى موافقة الشارع فيما قصد؛ لذا فإن المختلفين وإن اختلفوا
في مسألة معينة فهم متفقون من جهة القصد إلى موافقة الشارع
ولهذا لم يكن الاختلاف لدى السلف سبباً في إثارة العداوة والبغضاء فيما بينهم
بل اتسعت صدورهم لهذا الاختلاف وقبلوه؛ فكان كلٌّ منهم يرى
أن رأيه صواب يحتمل الخطأ ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب.
ولم يكن هذا الاختلاف كذلك سبباً من أسباب ضعفهم وتفرقهم،
بل كان سبباً من أسباب عزتهم ونماء فكرهم؛ فقدموا لنا هذه الثروة
التشريعية الهائلة التي تزخر بها المكتبة الإسلامية.
فقد اختلف أئمة المذاهب في كثير من الأحكام الفقهية الفرعية
أكثر مما هو في زماننا هذا ولم نسمع بفوضى الفتوى في زمانهم،
بل كان احترام المخالف والتعامل مع اختلافه بأسلوب حضاري علمي
هو الأسلوب السائد والغالب،
فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى عندما زار قبر الإمام أبي حنيفة رحمه
الله تعالى وصلى في مسجده لم يقنت في صلاة الفجر، وهو يرى القنوت سنة
احتراماً لصاحب هذا القبر.
ويقول الإمام أحمد عن الإمام الشافعي –
وقد خالفه في كثير من المسائل -:
ما صليتُ صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي.
أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له هذا الدعاء؟
يا بني: كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن،
وكان الإمام أحمد يرى أن خروج الدم ينقض الوضوء، ولكنه سُئل:
"أتصلي خلف رجل احتجم ولم يتوضأ؟
سبحان الله، كيف لا أصلي خلف مالك بن أنس وسعيد بن المسيب؟!
ويقول الشافعي عن الإمام مالك:
إذا ذُكر العلماء فمالك النجم. ويقول: الناس عيال في الفقه
وما زلنا نتنسَّم أدب الاختلاف وفقهه من رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك
وهو يخالفه في كثير من المسائل ويرد عليه بأسلوب علمي حضاري
تظهر من خلاله المحبة المكنونة في نفوسهم للعلم والعلماء.
هذه شذرات من أقوال بعضهم ببعض تعطينا في هذا الزمن تصوراً
عن أدب التعامل مع أهل العلم واحترامهم، فضلاً عن إحسان الظن بهم،
والبحث عن أعذار أو مخارج حتى لو أخطأوا في نظرنا.