يحقُّ لنا مرة أخرى أن نتساءل:
كيف غاب هذا الأدب عن الخطاب الإسلامي المعاصر ولماذا اختفى؟!
الذي نعتقده هو أن فوضى الواقع والانحياز إلى تيارات مختلفة وأفكار
متصارعة هو الذي طغى على هذا الأدب؛ فذهب به وأخرجه من عقول
الكثيرين حتى ممن هم في عداد العلماء والمتدينين؛ فأصبح الاختلاف
مذموماً ينطوي على الإعجاب بالنفس والغرور وسوء الظن بالآخرين
والمسارعة إلى اتهامهم والتعصب لاتجاهات معينة وأقوال أشخاص
وأحزاب وجماعات ولو كان في ذلك مخالفة صريحة للأدلة الشرعية،
وعدم التثبت في نقل الأخبار وسماعها، وبناء المواقف على الظنون،
ونسوا أن الظن لا يغني من الحق شيئاً.
وأصبح الرد على المخالف يكون بالسب والشتم والطعن في العلماء
واتهامهم في نياتهم التي لا يعلمها إلا الله ولا يطلع عليها إلا علام الغيوب،
وبنظرة سريعة إلى فوضى واقعنا المعاصر ندرك ذلك جيداً؛
فالمصطلحات المستخدمة في الرد على المخالف لا توجد في أدبيات
الاختلاف العلمي، ولا يجوز شرعاً أن توجه إبان الرد على المخالف.
ما نقرؤه في الآونة الأخيرة من مصطلحات مثل: الرعاع، والأوباش،
والأقزام، وعلماء السلطان، والمبطلون، والجهلة، وأهل الهوى،
والفردة الأخرى للبوطي... بل إن من كنا نظن فيهم خيراً ونحسبه منارة
من منارات العلم في أحد مقالاته يقول:
"هناك مفتون، تعينهم الأنظمة والحكومات، وهؤلاء في ورطة كان الله
في عونهم؛ لأن المطلوب منهم - غالباً - إباحة ما أراده الحكام
وما يصدر عن الحكومات، ولو كان حراماً مجمعاً عليه".
وهذه تزكية عجيبة للنفس مع اتهام للآخرين، ودون احترام الآراء الأخرى،
}فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى {
والتعصب للرأي بهذه الطريقة صفة ذميمة لا ينبغي للمسلم أن يتصف بها.
لا نعتقد أن هناك فوضى في الفتوى في هذا الزمن بقدر ما نعتقد أن هناك
فوضى فكرية وأخلاقية انتشرت في مجتمعنا؛ فأورثت فوضى أخلاقية
واقتصادية واجتماعية، وفوضى صراع أفكار وتيارات ضغطت
على العقول فأعمتها عن أدب الخلاف والاختلاف حتى من الذين كنا
وما زلنا نحترمهم ونُجلِّهم ونظن فيهم خيراً.
وكنا نتمنى أن نجد ردوداً علمية محكمة تستند إلى الأدلة الشرعية
على بعض الآراء من المخالفين، أو حتى ردوداً منطقية على المخالف
أياً كان، تستند إلى الموضوعية والحكمة وقبول الرأي الآخر،
بعيداً عن لغة الشتائم والسباب واتهام الآخرين وسوء الظن بهم والألفاظ
التي لا تليق بالعوام فضلاً عن العلماء والمفكرين، ولكنها فوضى الواقع
التي جرفت الكثيرين وغرتهم فأعمتهم عن الحق؛ فزلت أقدام وضلت
أفهام في خضم هذه الفوضى العارمة التي يجب أن لا تنطلي
فالمسلم كَيِّسٌ فَطِن، وليس إمعة،
ولا تتلاعب به الأهواء والاتجاهات المختلفة، ولا يغرُّه الباطل ولا كثرة
سالكيه، فالدين النصيحة، والواجب الشرعي يُحتِّم علينا أن نتناصح
فيما بيننا وأن يكون الخطاب الإسلامي الأصيل المستند إلى لغة الحوار
وأدب الاختلاف هو الطريق الأمثل لتبادل وجهات النظر وبيان الآراء
للوصول إلى الحق والصواب، وما دامت الغاية واحدة - وهي الوصول
إلى الحق - لا يضيرنا اختلاف الطريق وأي طريق نسلك،
فالاختلاف لا يُفسد للود قضية، وأدب الاختلاف يجب أن لا يضيع
في خضم فوضى الواقع الذي نعيشه، لنعيد بناء الصرح الإسلامي
، ونرأب الصدع الذي ألمَّ بمجتمعنا، ونعالج جذور الفوضى الفكرية
التي أورثتنا التنازع والاختلاف
}وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {
سائلين الله تعالى أن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل،
وأن يُلهمنا الصواب في القول والعمل.