أن إتمام النعمة هو النبوة وحمل الرسالة،
وهذه هي المهمة التي يعدّك الله للقيام بها بعد اختيارك
وتأييدك بعلم تأويل الرؤيا .
وتختتم الآية بقوله تعالى حكاية عن سيدنا يعقوب
{ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
{ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ }
وكلمة { حَكِيمٌ } تعود إلى الاجتباء والاختيار،
أي أن هذا الاختيار جاء لحكمة يعلمها الله فـ
{ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }
إذاً في هذه السن المبكرة يختار الله تعالى سيدنا يوسف ليقوم بتبليغ رسالته،
وهذه مهمة عظيمة تحتاج إلى تهيئة واستعداد،
وقد تكفّل الله { ربّه } بتربيته وتهيئته ورعايته
حتى يتم المهمة الموكلة إليه على الوجه الذي يرضي ربه.
فكيف تجلت مظاهر التربية في مراحل حياة سيدنا يوسف عليه السلام ؟
مظاهر التربية في حياة يوسف عليه السلام
1- حادثة إلقائه في الجب :
يعيش يوسف عليه السلام المحنة الأولى في حياته في مرحلة الطفولة
حين يكيد له إخوته ويقرروا أن يلقوه في ظلمة بئر ليلتقطه بعض السيارة،
ويحملوه بعيداً، فيخلو لهم وجه أبيهم.
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ }
إنه الآن في ذروة الأزمة، وفي أشدّ أوقات المحنة والكرب،
وهو ما يزال طفلاً صغيراً. هنا يأتي دور المربي في بث الطمأنينة في نفسه
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }
إن سيدنا يوسف وهو في هذه السن المبكرة
وفي ظرف كهذا بحاجة إلى من يهدئ نفسه ويشعره بالأمان،
غير أنه على حداثة سنه يفتقر إلى الدليل الموصل إلى هذه الغاية،
فكان أن طمأنه { ربّه } بأن لا تخف ولا تحزن
فإنك ناج مما أنت فيه ومخبرهم بما يدبرونه من المكر والأذى ...
ولنا أن نتصور مشاعر هذا الطفل
وقد طمأنه ربّه وآنسه ووعده بالنجاة والسلامة.
ينجي الله سيدنا يوسف من محنته الأولى
ويُحمل إلى مصر ليباع ـ وهو الحرّ ـ عبداً بثمن قليل.
ويشتريه العزيز ثم يطلب من امرأته أن تهتم بهذا الغلام وتكرم مثواه،
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ }
إن { ربّه } الذي تولّى رعايته وتربيته سيجعل من محنته هذه ـ
إذاً ـ سبباً من أسباب رفعة شأنه وعلوّ منزلته كيف لا والله هو { ربّه }!
3- أمره مع امرأة العزيز :
يوسف عليه السلام ما يزال حتى هذا الوقت في مرحلة الاختيار والاجتباء
بما تتطلبه هذه المرحلة من الرعاية والتربية، والحفظ والإعداد.
{ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ }
وهذه المرحلة سيشهدها سيدنا يوسف في مصر
بعد أن جعل الله من مصر مكاناً لاستقراره وعيشه في عزّ وأمان
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } .
بعد أن حفظ الله تعالى سيدنا يوسف في طفولته ونجاه من محنتين عظيمتين،
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا }
[ يوسف : 22 ]
وفي هذه المرحلة سيتعلم سيدنا يوسف درساً اسمه ( الاعتماد على الله ) .
وتراوده امرأة العزيز عن نفسه، وهو في مرحلة الشباب والقوة،
ولمّا أن هيأت للأمر أسبابه ودعته إلى ارتكاب الفاحشة ،
استعاذ سيدنا يوسف بالله مما تدعوه إليه،
وذكّرها بفضل العزيز عليه قائلاً
{ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
إشارة إلى ما أوصى به العزيز امرأته عندما اشترى يوسف عبداً
[ الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ] .
ولمّا لم يردع امرأة العزيز تذكيرها بزوجها وبفضله عليه ورعايته له،
ولما لم يكن ذلك سبباً في منعها من إنفاذ ما فكّرت بارتكابه،
اشتدت المحنة على سيدنا يوسف
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }
وعلى اختلاف الآراء في ماهية البرهان الذي رآه سيدنا يوسف
إلا أنّ { ربّه } الذي يتولى العناية به، ويتكفل برعايته،
يقوم بحفظه في هذه المحنة ويصرف عنه السوء والفحشاء .
وتأتي كلمة { ربّه } في الآية لتذكرنا بأن الله تعالى القائم على أموره
هو الذي أنجاه من منطلق ( التربية ) من هذه المحنة ،
ذلك أن المربي لا يرضى لمربوبه الوقوع في الخطيئة .
وعلى الرغم من أن سيدنا يوسف استعاذ بالله مما تدعوه إليه امرأة العزيز،
إلا أنه خاطبها بحجة من واقع الحال الذي تفهمه وتدركه،
لعل ذلك يكون أدعى إلى إقناعها بالعدول عما عزمت عليه .
لكن امرأة العزيز لم تزدد ـ أمام موقفه ـ إلا إصراراً.
فعلى الرغم من اكتشاف زوجها أمر مراودتها يوسف عن نفسه،
ها هي تخاطب النسوة اللواتي كن يلمنها على فعلتها
{ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ
وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ } .