وإن أردت المال فاطلبْ منه ما تشاء، وسل منه تُعطَ ما تشاء
فالنبي ما قال شيئًا، فتركه وعاد . تركه النبيّ عليه الصلاة والسلام
يومين على حاله، يؤتى له بالطعام والشراب، ويحمل إليه لبن الناقة
ليس عندي إلا ما قُلت لك من قبل
فتركه النبيّ عليه الصلاة والسلام، حتى إذا كان في اليوم التالي جاءه
عنـدي ما قلت لك: إن تنعم، تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم،
وإن كنت تريد المال، أعطيتك منه ما تشاء .
فالتفت النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى أصحابه،
( أطلِقوا ثمامة، وفكُّوا وثاقه، وأطلقوه(
يعني عفا عنه، لكن هذا من شأن النبيّ عليه الصلاة والسلام،
فالله عزَّ وجل فتح بصيرته، ولا شك أن النبيّ عليه الصلاة والسلام
توسَّم فيه الخير، وهذا موقف غريب جداً، وموقف غير معقول،
قاتل نكَّل بأصحابه، عفا عنه، وأكرمه هذا الإكرام، وأطعمه الطعام،
وسقاه هذا اللبن!
غادر ثمامة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى حتى إذا بلغ
نخلاً من حواشي المدينة، قريباً من البقيع، فيه ماءٌ، أناخ راحلته عنده،
وتطهَّر من مائه، فأحسن طهوره، ثم عاد أدراجه إلى المسجد،
فما إن بلغه، حتى وقف على ملأٍ من المسلمين
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
-فهذا الإنسان على جانب عالٍ من الذكاء، ما أراد أن يسلم وهو مقيَّد،
وما أحب أن يُسلم تحت ضغط الأسر، لكن حينمـا عفا عنه النبي،
يا محمد، والله ما كان على ظهر الأرض وجهٌ أبغض إليّ من وجهك,
-العرب كانوا صرحاء، وما تسمع الآن إلا مديح كاذب ، وزورٌ وبهتان
- وقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلُّها إليّ .
هذا بالإحسان، وأنت أيها المؤمن, بإمكانك تنقل إنسان من أشد أنواع
العداوة والبغضاء إلى أشد أنواع الحب والولاء, بإحسانك، افتح القلوب
بإحسانك، قبل أن تفتح الآذان لبيانك،
ووالله يا محمد، ما كان دينٌ أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك اليوم أحبَّ
الدين كله إليّ، ووالله يا محمـد، ما كان بلدٌ أبغض إلـيّ من بلدك،
فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ
يا محمد، لقد كنت أصبت في أصحابك دماً، فما الذي توجبه عليّ؟
فقال عليه الصلاة والسلام:
( لا تثريب عليك يا ثمامة، فإن الإسلام يجُبُّ ما قبله(
-أنت حينما تتوب فكل شيءٍ سبق هذه التوبة عفا الله عنه،
وبشَّره بالخير، الذي كتبه الله له بإسلامه، فانطلقت أسارير ثمامة، وانفرجتْ-
والله يا محمد، لأُصيبن من المشركين أضعافَ ما أصبت من أصحابك،
ولأضعن نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك، ونصرة دينك
وهنا وقفة أُخرى، إذَا أقنعتَ إنسانًا له شأن، فاعتقد اعتقاداً جازماً صحيحًا
فإنّ كل أتباع هذا الإنسان يصيرون إلى دينه، وإذا أقنعتَ مثلاً رب أُسرة بالإيمان
إذا أقنعت الابن قناعة كافيةً فهذا أجود، لكن يبقى موقفُه ضعيفًا في الأُسرة
أمّا لو أقنعت الأب لوجَّه أولاده جميعاً، لو أقنعتَ مدير مؤسسة، أو أقنعت
مدير مستشفى مثلاً، فكلما رفعت مستوى الدعوة، هؤلاء لهم أتباع،
هؤلاء لهم مراكز قِوى، هؤلاء بإمكانهم أن يؤثروا في الآخرين،
ولقد دعا النبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربَّه أن يعز الإسلام برجلين،
فعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
( اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ
أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَر ُ)
]أخرجه الترمذي في سننه عن ابن عمر[
ثمامةيؤدي العمرة على شرع الله ورسوله :
كان ثمامةأصلاً متوجِّهًا للعمرة، وبالمناسبة في بعض مواسم الحج السابقة
أُلقيتْ بعض الندوات والمحاضرات، وكان في المجلس رجل من العالم الغربي
أسلم وحسُن إسلامه، وامتلأ قلبه بالإيمان، وهو على مستوى رفيع جداً
من الثقافة، فألقى محاضرة في مكة المكرمة، قال فيها:
نحن أقوى أُمم الأرض، فإذا أقنعتمونا بالإسلام، فكل قوتنا تتحوّل لكم،
يعني نحن أقوى أُمة، بأيدينا السلاح المدمِّر، السلاح الفتَّاك، التكنولوجيا،
الأقمار الصناعية، الكمبيوتر، فإذا أقنعتمونا بالإسلام، وهديتمونا إليه،
فكل قوتنا تصبح بين أيديكم, يعني أنت همَّك الأول هداية الناس،
فإذا اهتدى إنسان قوي، فكل قوته تصبح للإسلام
لذلك يقول الإمام مالك إمام دار الهجرة :
( لو أن ليّ دعوةً مستجابةً، لادَّخرتها لأُولي الأمر )
لأن في صلاحهم، صلاح الأُمة, القوة لها شأن كبير، إذا كان الإنسان قويًّا
فأقنعته بالدين، فإنّ كل قوته، وكل ذكائه، وكل أتباعه، وكل إمكاناته،
مضى ثمامة إلى غايته، حتى إذا بلغ بطن مكة وقف يجلجل بصوته العالي،
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمـد, والنعمة, لك والملك،
فكان أول مسلمٍ على ظهر الأرض يدخل مكة ملبِّياً، ولا تزال مكة
بيد الكفار، ولا يزال فيها الأصنام .
ما هو موقف قريش حينما سمعت ثمامة يلبي نداء الإسلام
ولماذا فرض ثمامة الحصار على قريش, وبمن استنجدوا ؟
سمعت قريشٌ صوتَ التلبية، فهبَّت غاضبةً مذعورة، واستلت سيوفها
مِن أغمادها، واتجهت نحو الصوت لتبطش بهذا الذي اقتحم عليها عرينها
ولما أقبل القوم على ثمامة، رفع صوته بالتلبية رفع العيار، وهو ينظر
إليهم بكبرياء، فهمَّ فتىً من فتيان قريش أن يرديه بسهمٍ، فأخذوا
ويحك أتعلم من هذا؟ إنه ثمامة بن أثال، ملك اليمامة، فقتْلُه
يشعل علينا نارَ حربٍ كبيرةٍ، أخذوا على يديه، ومنعوه أن يناله بسهم،
والله إن أصبتموه بسوءٍ لقطع قومه عنا الميرة، وأماتونا جوعاً
ثم أقبل القوم على ثمامة، بعد أن أعادوا السيوف إلى أغمادها
ما بك يا ثمامة، أصَبَوْتَ؟ يعني أسلمت، وتركتَ دينك ودين آبائك
ما صبوت، ولكني اتبعتُ خير دينٍ، اتبعت دين محمد
أُقسم بربِّ هذا البيت إنه لا يصل إليكم بعد عودتي إلى اليمامة حبةٌ
من قمحها، أو شيءٌ من خيراتها، حتى تتبعوا محمداً عن آخركم
.
ثم اعتمر ثمامة بن أُثال على مرأى من قريش كما أمره
النبيّ عليه الصلاة والسلام أن يعتمر، وذبح تقرباً إلى الله، لا للأنصاب والأصنام
ومضى إلى بلاده، فأمر قومه أن يحبِسوا الميرة عن قريش، فصدعوا لأمره
واستجابوا له، وحبسوا خيراتهم عن أهل مكة, لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام
حينما أكرمه، وحينما عفا عنه، أراد من خلال ذلك أن يهتدي، ويهتدي معه قومه
وهذا بالتعبيّر العام ضربة معلم، رحمة، عفو، حنكة، سياسة، عفو عند المقدرة
دعوة إلى الله عميقة، لأن هذا إنسان قوي، إذا أسلم فكلُّ أتباعه، يصبحون مسلِمين .
أخذ الحصار الذي فرضه ثمامة على قريش، يشتدُّ شيئاً فشيئاً، فارتفعت الأسعار
والآن النظام العالمي الجديد يتخذُّ الحصار علاجًا، لكن بغير الحقّ،
بل بالباطل، فارتفعت الأسعار وفشا الجوع في الناس، واشتد عليهم الكرب
حتى خافوا على أنفسهم وأبنائهم أن يهلكوا جوعاً، عند ذلك كتبوا
إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، صار النًبي ندًّا لهم، كان ضعيفاً مستضعفاً
ائتمروا على قتله، أخرجوه من بلاده، نكَّلوا بأصحابه، وهم أشداء أقوياء
ولكن الله لهم بالمرصاد ثم أرادوا أن يتوسَّلوا إلى النّبي عليه الصلاة والسلام ليأكلّوا
فكتبوا إلى النّبي عليه الصلاة والسلام قائلين:
إن عهدنا بك أنك تصل الرحم، وتحضُّ على ذلك، وها أنت قد قطعتَ أرحامنا
فقتلتَ الآباء بالسَّيف، وأمتَّ الأبناء بالجوع، وإنَّ ثمامة بن أُثال
قد قطعَ عنا ميرتنا، وأضرَّ بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث
إلينا بما نحتاج إليه فافعل .