فقد قُدر لي أن أكون في أحد الأيام الماضية في رحلة إلى البحر، استمرت
نحواً من 18 ساعة، زانها البعد عن صخب الدنيا، وانقطاع الاتصالات
مع كل أحدٍ إلا مع الله، ومع أحبتي الذي كانوا معي.
البحر وما أدراك ما البحر!
وفرصة لملء هذا القلب بتعظيم الله، إذ لا صلاح له، ولا سعادة إلا بأن
يكون هذا القلب معظماً لله، ومخبتاً لخالقه، مملوءاً بإجلاله وهيبته.
إن السير في البحر، هو من جملة امتثال الأمر الإلهي
في القرآن للتفكر والنظر والاعتبار
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
أم كيف يتم تحقيق اليقين في قوله تعالى:
{ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ }
إلا بمثل هذا السير في الأرض، والنظر في ملكوت الله؟!
ألم يمدح الله المتفكرين في خلق السماوات والأرض؟:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار
ِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار ِ}.
إن السير في الأرض قد يشترك فيه المؤمن والكافر، لكن المؤمن له
في كل شيء عبرة، وفي كل أمر فكرة، تذكره بالله، والدار الآخرة
المؤمن قد يخرج للنزهة البرية، وقد يمخر عباب البحر، لكنه يعود بفوائد
وعوائد إيمانية، هي أعظم مما يقع من أُنْسٍ عارضٍ مع الصحب
والأصدقاء لقد ذكرتني عظمة البحر ـ وأنا بين أمواجه ـ عظمةَ خالقه،
وأنه لا يخلق العظيم إلا عظيم، جل في علاه.
وأنا أرى الأمواج تتلاطم من حولي ـ وتذكرت حينها
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ
إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا }!
فالحمد لله الذي جعلنا لا نستغيث إلا به في البر والبحر والجو.
وأنا أمخر عبابه ـ شيئاً من معاني
{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ
َبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا }
{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ
مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
هل تصورت الأمر؟ هب أن كل شجرة في الأرض، في بره وبحره صارت
أقلاماً، ثم تحوّلت هذه البحار العظيمة إلى محابر، فصارت الأقلام تكتب
كلمات الله، والبحار من ورائها بحار، ما نفدت ولا انتهت كلماته سبحانه وبحمده.
فهو أحد مستودعات الرزق الكبرى في الأرض:
{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
فاللهم اجعلنا من الشاكرين!