هكذا كان أصحاب رسول الله، يتناصحون, والقاعدة أن الذي يمدحك
لا يرقى بك، لكن الذي ينتقدك ويعارضك يرقى بك، ولا شيء يجعل
المنحرف يزداد انحرافاً كسكوت من حوله, ونحن المسلمين ما عندنا اتباع أعمى
}قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي{
اتباع أعمى ليس عندنا، بل الحق حق، والباطل باطل,
والموازين واضحة، والموازين في الكتاب والسنة
} فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول ِ{
( سورة النساء الآية: 59 )
إليكم المعركة التي استشهد فيها سالم
وقدم روحه الزكية في سبيل إعلاء راية الإسلام :
انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى, وواجهت خلافة
الصديق مؤامرات المرتدين, وجاء يوم اليمامة، وكانت حرباً رهيبةً
لم يُبتلَ الإسلام بمثلها, وخرج المسلمون للقتال، وخرج سالم وأخوه
في الله أبو حذيفة, وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم،
وأحس كل مؤمن أن المعركة معركته، وأن المسؤولية مسؤوليته,
وجمعهم خالد من جديد، وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة,
وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل
الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة، وقذفا نفسيهما
في الخضم الرهيب, كان أبو حذيفة, يقول وينادي:
( يا أهل القرآن, زينوا القرآن بأعمالكم )
هذه النقطة تحتاج إلى إيضاح، والقرآن كلام الله عز وجل، إن وجدته
في مجتمع يتلى ولا يطبق, هل هذا يعني زيناه بأعمالنا؟ لا والله.
مثلاً, إذا رأيت في المحافظة مخططات للحدائق رائعة جداً,
مساحات خضراء، أشجار الصنوبر، هنا ممرات، هنا بحيرات، هنا مدرج
للمحاضرات، وهناك مجمع استهلاكي، إذا أنت وقفت في بناء المحافظة,
ورأيت أشياء جميلة, وذهبت إلى المدينة، ولم تجد من ذلك شيئاً ،
بل رأيت مجمع قمامة، وأمكنة خربة، فالفرق كبير جداً, لكن لو أن كل
هذه المخططات التي رأيتها في المحافظة وجدتها في الواقع فعلاً مساحات
خضراء، وحدائق جميلة, وشلالات، و طرق نظيفة، وأرصفة،
إضاءة جيدة في الشوارع، كل شيء رأيته على المخطط رأيته في الواقع،
فهذا يعني أن هذه الخارطة وهذا التصميم مزين بالواقع الجيد .
نحن إما أن نزين القرآن بأفعالنا، وإما أن نجعله باهتاً بمخالفاتنا
فهذا الصحابي الجليل, قال:
يا أهل القرآن, زينوا القرآن بأعمالكم,
وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب، وكان سالم يصيح
هذا أبو حذيفة,أما سيدنا سالم, فقد قال:
( بئس حامل القرآن أنا، لو هوجم المسلمون من قبلي )
انظر الجمع بين تلاوة القرآن، وبين شجاعة الجنان, فقيل له :
( حاشاك يا سالم, بل نعم حامل القرآن أنت )
}وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا
وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {
( سورة آل عمران الآية: 146 )
وكان سيف هذا الصحابي الجليل جوالاً، صوالاً، في أعناق المرتدين،
وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها، وكان يحمل بها راية
المهاجرين، بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب، ولما رأى يمناه تبتر
التقط الراية بيسراه، وظل يلوح بها إلى أعلى,
وهو يصيح تالياً الآية الكريمة:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا
وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {
( سورة آل عمران الآية: 146 )
أحياناً ترى أخاً على الرخاء شغله جيد، وأعماله، و صحته, وبيته كذلك،
وفجأة فقد وظيفته، وتغير وضعه، يسأل: ماذا فعلت؟ معناها أنت مالك
عبد الفتاح بل أنت عبد الفتح، الأمور ما دامت ميسرة فأنت راضٍ،
لكن الله عز وجل امتحنك، البطولة أن تكون مقبلاً في الشدة لا
في الرخاء, سيدنا سالم تلا هذه الآية, ثم أحاطت به غاشية من المرتدين
فسقط البطل ، ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت
المعركة بقتل مسيلمة الكذاب، واندحار جيشه، وانتصار جيش المسلمين,
وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالماً في النزع
الأخير يلفظ أنفاسه الأخيرة .
قصص وقعت في التاريخ تكاد تكون غريبة عن أذهاننا :
وفي التاريخ الإسلامي مشاهد يكاد العقل لا يصدقها، ثلاثة جرحى اسألوا
طبيباً جراحاً إذا أجرى عملية لإنسان, وفقد جزءاً من دمه, يعني يصبح
الماء أغلى عليه من روحه ، يطلب ماء كثيراً، كل إنسان أصابه نزف تنشأ
عنده حالة عطش غير معقولة, فهؤلاء الصحابة الثلاثة،
جاءهم شخص ليسقي الماء, فسأل أول شخص: هل لك بالماء حاجة؟
قال له:اسقِ أخي لعله أحوج مني، ذهب إلى الثاني, فقال له: اسقِ أخي
لعله أحوج مني، فذهب إلى الثالث فرآه قد مات، رجع إلى الثاني فرآه
قد مات، ثم رجع إلى الأول فرآه قد فارق الحياة
وهذا غاية الإيثار, فهل هناك إنسان يؤثر غيره على نفسه وهو في
النزع الأخير؟ هكذا ربى النبي أصحابه على المؤاثرة والتضحية .
لولا الصحابة الكرام لما انتشر الإسلام إلى الأفاق, لكن بأخلاقهم النادرة
وبالقيم العالية لديهم رفرفت رايات الإسلام بعيداً في الآفاق,
والله يا أخوان سأقول لكم كلمة:
}وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ{
الناس لا يرغبون بجامعكم، ولا فيكم، بل يرغبون بأخلاقكم، أخلاقكم
وحدها هي التي تؤكد حقيقة هذا الدين العظيم، لأن الدين ربّى أناساً
أبطالاً، ربى أناساً أعفــة, ربى أناساً منصفين، ربى أناساً موحديـن،
ربى أناساً متماسكين، ربى أناساً متبادلين، ربى أناساً يؤثرون
أخر كلمة تكلم بها سالم وهو في رمقه الأخير :
سيدنا سالم وهو في النزع الأخير, ماذا سألهم؟ وقبل أن أجيب نعرج على
حادثة طعن سيدنا عمر قبل صلاة الفجر، طبعاً أغمي عليه إذ فقد جزءاً
ثم إنه صحا من غيبوبته, قال:
( هل صلى المسلمون الفجر؟ )
فما أهمه إلا شيء واحد, هل صلى المسلمون الفجر؟
سيدنا سالم وهو في النزع الأخير, قال:
( ماذا فعل أبو حذيفة طمئنوني عنه؟ )
هناك صحابي جليل سعد بن الربيع تفقده النبي فما وجده، فسأل أناس
يتفقدونه في ساحة المعركة، الذي كلفه النبي أن يتفقده
رآه بين الموت والحياة, قال له:يا سعد, هل أنت بين الأموات أمْ بين الأحياء؟
قال له: والله أنا مع الأموات, ولكن أبلغ رسول الله وأقرئه السلام،
وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته،
وقل لأصحابه: لا عذر لكم إذا خلص أحد إلى نبيكم وفيكم عين تطرف
إنسان على فراش الموت، أو في النزع الأخير، على وشك مغادرة الدنيا،
ـانظروا إلى صدق المؤاخاة ـ
قالوا: إنه إلى جوارك يا سالم، لقد استشهد في المكان نفسه, وابتسم
ابتسامته الأخيرة، ولم يتكلم .
لقد عاش سالم وأبو حذيفة معاً، وأسلما معاً، واستشهدا معاً, أما الشيء
الغريب أن سيدنا عمر بن الخطاب، عملاق الإسلام الخليفة الراشد،
ثاني الخلفاء الراشدين، يقول وهو على فراش الموت:
( لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي )
ما هو المطلوب من المسلم المعاصر ؟
أنا كل ما أرجوه منكم لكي نجعل هذا الدرس ذا فائدة، أن نحاول أن نطبق
هذا الذي نسمعه فيما بيننا، نريد أن نعيش مجتمع الصحابة، بقدر إمكانكم
أقيموا المحبة بينكم، والمؤاخاة ، والتضحية, والإيثار، والجرأة،
لا تجاملوا بعضكم أبداً، لكن بأدب, تناصحوا من دون فضيحة بعضكم بعضاً .
فكل أخ ليكن له أخ، أخ حميم، عاونه في دنياه، في أخراه, إذا أحتاج
إلى مال أقرضه , حتى نستدرّ عطف الله عز وجل علينا جميعاً، لأن يد الله
مع الجماعة، ويد الله على الجماعة ، فالتناصح التناصح .
فهذه الدروس اجعلوها واقعاً ترقوا بها، وإذا جعلتموها معلومات
سمعتموها، وقلتم: الدرس حلو, وكان ممتعاً، فهذا كلام فارغ,
وصار الدرس عندئذٍ تسلية، أما إذا عشنا هذه المعاني, فلك صديق
أو أخ فعاونه, والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
إننا نريد مجتمع المسلمين، نريد أن نعيش مجتمع الصحابة، نحس أننا
في مجتمع له قيم خاصة، قيم الدين, وطبقة واحدة, فلا أحد أحسن من
أحد, كلكم لآدم وآدم من تراب، لا المال له قيمة عندنا، ولا الصحة،
ولا الجمال, ولا الوسامة، ولا النسب، ولا الحسب، الإنسان قيمته
سيدنا سالم في الطبقة الدنيا من المجتمع، يعني أقل طبقة
( لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي )
هذا هو الإسلام .نحن نريد مؤاثرة، تضحية، معاونة، وأن يحس الإنسان
الذي يقبل على الجامع أن هذا الجامع بيت الله، وكل من فيه أحباب الله،
لا حسد, لا ضغينة، ولا نقد، ولا استعلاء, ولا كبر، لكن هناك أشخاص
قناصون ينتظر منك خطيئة، ومتى ما علقت فضحك, هذا مجتمع الذئاب،
مجتمع المنافقين، مجتمع المنحرفين، إننا نريد مجتمع المسلمين,
ونريد الإسلام واضحاً فيما بيننا .
الهدف الذي يرنو إليه أستاذنا النابلسي :
فنحن ما أردنا من هذه القصص التسلية، هي قصص ممتعة، لكن ما أردت
منها إلا أن نجعلها نبراساً لنا، مفاهيم نطبقها في حياتنا, فهذان الصحابيان
لبعد ألف وخمسمئة سنة، نقرأ سيرتهما, فيتعطر بهما المجلس,
مجتمع القيمة الواحدة لا القيم العديدة، وليست قيماً مادية بل كلها قيم
روحية، قيم أخلاقية, والنبي الكريم, يقول:
( الحمد لله الذي جعل في أصحابي مثلك )
هذا كلام سيدنا رسول الله، وسيدنا عمر, يقول
( لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي )
هذا الذي والله أتمناه، وكلما حرصنا على تطبيق هذه المواقف
وهذه السنن كلما ارتقينا عند الله
في الله اخوكم مصطفى الحمد