فدلّ على أن معرفة الله والرسل بالسمع كما أخبر الله عز وجل،
وهذا مذهب أهل السنة والجماعة .
ثم إن كثيراً من مسائل الاعتقاد بعد معرفتها والعلم بها لا تدرك العقول
حقيقتها وكيفيتها، وذلك كصفات الله تعالى وأفعاله، وحقائق ما ورد
من أمور اليوم الآخر من الغيبيات التي لا يحيلها أو يردها العقل،
ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في القرآن الكريم لتقرير مسائل الغيب،
تنبيهاً للعقول على إمكان وجودها، فاستدل على النشأة الآخرة بالنشأة
الأولى، وعلى خلق الإنسان بخلق السماوات والأرض وهي أعظم وأبلغ
في القدرة، وعلى البعث بعد الموت بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الماء عليها
لو كانت العقول مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه، لكانت الحجة قائمة
على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب، واللازم باطل بالنص:
} وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً {
وأخيراً: فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح؛ فالأول خلق الله تعالى
والثاني أمره، ولا يتخالفان؛ لأن مصدرهما واحد وهو الحق سبحانه:
} أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر{
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
( وليس في الكتاب والسنة وإجماع الأمة شيء يخالف العقل الصريح؛
لأن ما خالف العقل الصريح باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع
باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها
معنى باطلاً، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة ) .
ولذا قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله:
( من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم ) ،
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو أن العقل مع النقل
كالعامي المقلد مع العالم المجتهد؛ بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي
يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسول
أما الفطرة فهي خلق الخليقة على قبول الإسلام والتهيؤ للتوحيد،
أو هي الإسلام والدين القيم.
}فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {
فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره .
فالحنفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله، والخضوع له،
والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية .
}لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ {
معناه : أن الله ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة.
( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه
أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة،
فمعنى خلق المولود على الفطرة هو:
أن الطفل خلق سليماً من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم
حين أخرجهم من صلبه ، والفطرة قبول الإسلام، فهي كالأرض الخصبة
القابلة، والوحي كالغيث النازل من السماء، ما إن ينزل عليها حتى تهتز
وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.
والفطرة السوية تقبل الإسلام وتهتدي إلى وجود الخالق بما أودع الله
الخلائق من قوانين كلية، تظهر آثارها في الطفل الناشئ الذي لم يتعلم
أو يتكلم، فهو يدرك أن الحادث لابد له من محدث، وأن الجزء دون الكل،
وأنه يستحيل الجمع بين المتناقضين، وهذا من أوائل العقل وبواكيره،