والدلالة التي لا تخفى على المتأمل :
{ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }
[ البقرة : 164 ]
ثم قال :
{ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ }
[ ق :11 ]
أي مثل هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب ,
خروجكم من الأرض بعد ما غيّبتم فيها .
وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن
في كتابنا " المعالم " أنظر أعلام الموقعين عن رب العالمين .
بيّنا ما فيها من الأسرار و العبر .
ثم انتقل سبحانه إلى تقرير النبوّة بأحسن تقرير, وأوجز لفظ ,
وأبعده عن كل شبهة وشك , فأخبر أنه أرسل إلى قوم نوح وعاد وثمود
وقوم لوط وقوم فرعون رسلا فكذّبوهم , فأهلكهم بأنواع الهلاك ,
وصدق فيهم وعيده الذي أوعدتهم به رسله أن لم يؤمنوا ,
وذا تقرير لنبوّة من أخبر بذلك عنهم ,
من غير أن يتعلّم من معلّم ولا قرأه في كتاب ,
بل أخبر به إخبارا مفصّلا مطابقا لما عند أهل الكتاب .
ولا يرد على هذا إلا سؤال البهت والمكابرة على جحد الضروريات ,
بأنه لم يكن شيء من ذلك ,
أو أن حوادث الدهر ونكباته أصابتهم كما أصابت غيرهم ,
وصاحب هذا السؤال يعلمن نفسه أنه باهت مباهت جاحد لما شهد به العيان,
وتناقلته القرون قرنا بعد قرن ,
فإنكاره بمنزلة إنكار وجود المشهورين من الملوك والعلماء والبلاد النائية .
ثم عاد سبحانه إلى إقرار المعاد بقوله :
{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ }
[ ق : 15 ]
يقال لكل من عجز عن شيء : عيي به فلان بهذا الأمر .
قال الشاعر :
عيوا بأمرهم *** كما عيت ببيضتها الحمامة
ومنه قوله تعالى :
{ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ }
[ الأحقاف : 33 ]
قال ابن عبّاس :
[ يريد أفعجزنا , وكذلك قال مقاتل ]
قلت : هذا تفسير بلازم اللفظة , وحقيقتها أعم من ذلك ,
فان العرب تقول : أعياني أن أعرف كذا , وعييت به إذا لم تهتد لوجهه ,
ولم تقدر على معرفته وتحصيله .
فتقول : أعياني دواؤك إذا لم تهتد له, ولم تقف عليه .
ولازم هذا المعنى العجز عنه . والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى ,
فان الحمامة لم تعجز عن بيضتها ,
ولكن أعياها إذا أرادت أن تبيض أين ترمي بالبيضة ,
فهي تدور و تجول حتى ترمي بها ,
فإذا باضت أعياها أين تحفظها وتودعها حتى لا تنال ,
فهي تنقلها من مكان الى مكان وتحار أين تجعل مقرّها ,
كما هو حال من وعى بأمره فلم يدر من أين يقصد له و من أين يأتيه ,
وليس المراد بالإعياء في هذه الآية التعب ,
كما يظنّه من لم يعرف تفسير القرآن ,
بل هذا المعنى : هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة
{ مَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب }
{ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }
أي أنهم التبس عليهم إعادة الخلق خلقا جديدا ,
ثم نبههم على ما هو أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيّته
وأدلة المعاد : وهو خلق الإنسان , فانه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد
وأي دليل أوضح من تركيب الصورة الآدميّة بأعضائها وقواها وصفاتها ,
وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات
والعلوم والإرادات والصناعات, كل ذلك من نطفة ماء .
فلو أنصف العبد لاكتفى بفكره في نفسه ,
و استدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه و صفاته .
ثم أخبر سبحانه عن إحاطة علمه به , حتى علم ما توسوس به نفسه ,
ثم أخبر عن قربه إليه بالعلم والإحاطة
وأن ذلك أدنى إليه من العرق الذي داخل بدنه ,
فهو أقرب إليه بالقدرة عليه و العلم به من ذلك العرق .
وقال شيخنا وهو شيخ الإسلام بن تيمية :
المراد بقول " نحن " : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ,أي ملائكتنا,
{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }
أي إذا قرأه عليك رسولنا جبريل .
{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ }
فقيد القرب المذكور بتلقّي الملكين , فلا حجة في الآية لحلولي ولا معطّل .
ثم أخبر سبحانه أن على شماله ويمينه ملكين يكتبان أعماله وأقواله ,
ونبه بإحصاء الأقوال وكتابتها على كتابة الأعمال , التي هي أقل وقوعا ,
وأعظم أثرا من الأقوال, وهي غايات الأقوال ونهايتها