جاء الإسلام بعقائد وخصال هي أركان لبناء الأمّة وأساس لسعادتها،
وفي كل خصلة محرّك لهمّتها وباعث لرُقيّها... ومن أجَلّ تلك الخصال
الحياء خُلُقٌ يبعث على فعل الحسن وترك القبيح.
الحياء أَمارة صادقة على طبيعة الإنسان، يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه.
وهذه الخصلة لجامٌ يردع النفس عن شهواتها، ويصدّها عن قبيح
مطالبها، ويمنعها من الطغيان ومجاوزة الحدود، ويردّها إلى الحقّ
ولذلك حثّ الإسلام على التحلّي بهذا الخُلُق الرفيع ووصّى به نبيّنا
صلى الله عليه وسلم، وجعله أصلاً لكلّ خير وفضيلة، وعصمةً
فالذي يمرّ بخياله فعل الفاحشة فيمنعه حياؤه من اجتراحها، أو يسبّه
شخص فيمنعه الحياء من مقابلة السيّئة بمثلها، أو يضمّه مجلس فيُمسك
الحياء بلسانه عن الكلام في ما لا يَعنيه أو الخوض فيما لا يُجديه،
الذي يكون للحياء في نفسه هذه الآثار الطيبة، يكون ذلك دليلاً
على حُسْن خُلُقه وكمال إيمانه.
ما كان ناشئاً عن الشعور برقابة الله عز وجلّ، وعظيم حقِّه علينا،
لأنّ صاحب الحياء يخجل من إغضاب الله، أو إيذاء النّاس، ويذوب خجلاً
من هَتْك حجاب الفضيلة، أو ولوج أبواب الرذيلة... يراقب ربّه، ويحاسب
نفسه، ويعمل لآخرته قبل أن يعمل لدنياه،
( استحيوا من الله حق الحياء»، قلنا: إنّا نستحيي من الله يا رسول
الله والحمد لله، قال: «ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق
الحياء أن تحفظ الرأس وما وَعَى، والبطن وما حوى، وتذكر
الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا،
فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء )
إن الحياء بهذا الشمول هو الدين كله، فكيف لا يستحيي المسلم من خالقه؟
وكيف لا يَوْجل إذا أساء إلى ربه صاحب الحق العظيم عليه الذي تغمره
نِعَمه وآلاؤه؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا وأسوتنا،
وقد جاء بالحياء المحمود في جميع أحواله وأقواله وأفعاله، وكان أشدَّ
حياء من العذراء في خِدْرها، وكان إذا رأى شيئاً يكرهه عُرف في وجهه
لما يبدو عليه من أثر الحياء والخجل، وكان صلى الله عليه وسلم أرقّ
الناس طبعاً، وأنبلهم سيرة، لا يُشهّر بمن ارتكب خطأ أو معصية،
أو يوبخه على مرأى من الناس، بل كان يقول:
(... ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ )
بل ورد عنه صلى الله عليه وسلم:
( إنّ الله حَيِيٌّ سِتّير يُحب الحياء والستر )
حتّى إنّه سبحانه وتعالى يكره من العاصي أن يجاهر بمعصيته،
يعصي بالليل ثم يخرج بالنهار فيخبر بها الناس
( كل أمّتي معافى إلاّ المجاهرين )
ومع كون رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ الناس حياءً، فإنّه ما ترك
النهي عن المنكر، ولا أقرّ باطلاً، ولا سكت على خطأ، فإذا رأى حقاً
لله يضيع أو حدوداً تُنتهك غضب غضباً شديداً لا يقوم له أحد.
إنّ المرء إن مزّق حجاب الحياء عن وجهه ذهبت أخلاقه أدراج الرياح،
فلا يستحيي من دَنِيّة، ولا يخجل من رذيلة، لا يعرف إلا ما يُغويه ويُغريه،
يقترف ما أراد وإن كان في ذلك هلاك العباد وخراب البلاد؛
يصدق فيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:
( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى:
«إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت )
أين الغَيْرة على العرض والغضب
لقد جف ماء الحياء واللهِ عن أكثر الوجوه منذ حلّت الخلاعة والميوعة
والدياثة وماتت الرجولة، رُفع الحياء من وجوه الرجال والنساء،
فالرجال أصبحوا لا يأنفون من تعاطي المنكرات والقبائح، نساؤهم تخرج
إلى الشوارع كاسيات عاريات، مائلات مميلات بوقاحة وفجور في أبشع
صور الذل والمهانة دون وازع ولا رادع ولا حياء؛ مع أن المرأة المسلمة
هي الأجدر بأن تكون حَيِيّة مهذبة، وإن الحياء والحجاب عندها طاعة لله
واستجابة لأمره سبحانه، إن الحجاب دِرْعها الحَصين، ورائدها وعنوانها،
وإنّ جمال المرأة في روحه وحقيقته هو في حيائها
وأدبها وأخلاقها وطول صمتها وكثرة ذكرها
وعدم مجادلتها للرجال..قبل أن يكون في شكلها
وقامتها، وإن الحجاب عُنوان لهذا كله في لباسها.
فما أحرانا أن نتخلق بالحياء، الحياء الذي يتفجر من جوانب النفس
المؤمنة، الحياء الذي يطهِّر المشاعر ويهذِّب الخواطر ويسمو بالإحساس،
الحياء الذي يصون من الانهيار والتهور والسقوط والتدهور، ما أحوجنا
إلى الحياء الذي يجعل المؤمن يعيش في جَنابٍ رَضِيّ، وجَوٍّ نَدِيّ،
وقَرار مكين، وملاذٍ أمين،
نبينا صلى الله عليه وسلم:
( أنا زعيم... وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خُلُقه )
رواه أبو داود.